Monday, November 4, 2013

بين خصخصة الكسوف وعولمة هلال رمضان


خطر ببالي - وأنا أقرأ منشورات زميلي أبي جميلة سليمان ينغادو وفارس أفريقيا محمد الأمين سوادغو عن الكسوف الحادث في غرب أفريقيا قبل يوم- عدم تقاتلنا على عولمة الكسوف والخسوف كما تقاتلنا فقهيا على عولمة دخول شهر رمضان وخروجه!!! وقلت أليست هذه كلها متعلقة بالفلكين (القمر والشمس) ورؤيتهما؟ فلماذا احتدم النقاش في الثاني دون الأول؟
وقبل أن أذهب بعيدا دعوني أوضح نقاطي أكثر، فأقول: لقد ثار جدل كبير –كما لا يخفى على شريف علمكم- حول ما إذا رئي الهلال في جزر القمر أو في مالاوي أو جامايكا هل يجب على مسلمي الأرض صيام رمضان وإفطاره؟ والذين قالوا بأن رؤية المسلمين في قطر تعتبر رؤية لجميع المسلمين في جميع الأقطار استدلوا في ذلك بحديث البخاري (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته....) وقالوا بأن الخطاب هنا للمسلمين جميعا، فإذا رآه بعضهم حقيقة وحسا فقد رآه كلهم معنا واعتبارا.
فالسؤال الذي يطرحه خاطري على سادة هذا القول هو: لماذا لم تقولوا بنفس القول في الكسوف والخسوف؟ لماذا لم تقولوا بأن خسوف دكار وسريلنكا وألبانيا يعتبر خسوفا للمسلمين كلهم؟ ألم يستخدم النبي (صلى الله عليه وسلم) نفس الأسلوب الخطابي هنا تماما مثل ما استخدمه في قضية رؤية هلال شهر رمضان؟ ألم يقل النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في البخاري أيضا (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعو الله) لاحظوا يا السادة نفس لفظ (الرؤية) في كلا الحديثين، ونفس أسلوب الخطاب الجمعي (صوموا) جمع مذكر بصيغة الطلب، (فصلوا وادعوا) جمع مذكر بصيغة الطلب أيضا، إذا فما الذي اختلف هنا يا السادة؟!!!
طبعا سأحاول أن أجد لكم بعض المخارج:
المخرج الأول: أنكم أعجبتكم عولمة الفرح والسرور كما أعجبتكم خصخصة الخوف والذهول، أقصد أن دخول رمضان يمثل إيذانا بموسم الخيرات والبركات والطاعات وغفران الذنوب والعتق من النيران، وخروجه يمثل فرحا وسرورا وبهجة وجمالا، أما كسوف الشمس أو خسوف القمر فإنه يمثل الخوف والذهول، ولذلك مرة خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في البخاري أيضا يجر إزاره إلى صلاة الكسوف. مما يدل على أن الأمر يتطلب السرعة والمبادرة واستدعاء الرأي العام والذهنية الجمعوية لتدارك الموقف واحتواؤه بذكر الله والصلاة والدعاء. وفي قوله  (فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلّوا )  ينبئ بأن الحادثة تحتاج إلى توبة وإرضاء الله وذكره كثيرا حتى يذهب الوضع وينصرف.
أقول: إنه وبالنظر إلى هذه الزاوية فأنتم تريدون أن يشترك المسلمون في الفرح والسرور جميعا ويستشعروا كلهم فرحة اليوم وغبطته، ويكون شعارا لوحدتهم وتلاقحهم. أما مناسبة الحزن والخوف فأردتم تحجيره وتضييق دائرته فلم يكن بودكم أن تعولموه وتكوكبوه.
المخرج الثاني: أنكم اعتبرتم عامل الوقت والزمن، وذلك أنه ولقصر عمر الكسوف والخسوف الذي قد لا يأخذ أحيانا أكثر من نصف ساعة أو ساعة أو أقل أو أكثر فإن الأمر يصعب تصديره وإعطاءه الطابع العالمي، فالأخبار مهما كانت متسارعة في يومنا هذا، ومع وجود الشبكة العنكبوتية والأقمار الصناعية فإنه يصعب رصد بداية الكسوف الحادث في القاهرة مثلا ووقت انجلاءه هناك من أهل الرياض وباريس وغيرها، فلو قلنا بعولمة الكسوف أو الخسوف لانكشف القمر دون أن يعرفه الآخرون في الأقطار الأخرى فيستمروا في الصلاة والدعاء مع أن الأمر قد انجلى في موقع الحدث، أما هلال شهر رمضان وخروجه فإنه يعتبر حادثا متعلقا بشهر كامل وبعبادة كاملة وبأمور جوهرية تأخذ حيزا كبيرا من الإستعداد ونشر المعلومات وتبادل الأخبار والإهتمام من جميع الشرائح. فقد اعتبرتم عامل الوقت والزمن هنا.
وقد يقول قائل بأن علماء الفلك في هذه الأيام يحددون بالضبط متى يبدأ الخسوف ومتى ينتهي، فلا يوجد مشكلة في معرفة وقت الصلاة وانتهاؤها في أي قطر في العالم، فأقول بأن هذا فيه صعوبة التوقيت ومعرفة تقاطع المواقيت وحساب الفروقات بينها مع الأقطار الأخرى. إضافة إلى أن الحسابات الفلكية على رغم دقتها فليست قطعية.
المخرج الثالث: أنكم راعيتم مبدأ رفع الحرج عن الأمة. وبيان ذلك أن صيام رمضان وخروجه متعلق بخروج الليل ودخول النهار في جميع الأقطار، فبالإجماع أنه لا يجوز ابتداء الصيام في لحظة رؤية الهلال، وإنما يبدأ الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بمعنى آخر أن رمضان لا يشكل حرجا للناس إذا قلنا أن يصوموا معا، لأن العبرة بخروج الليل ودخول النهار في كل قطر من أقطار العالم، فلو رأينا القمر في غانا مثلا فإنهم قد يبدؤون الصوم بعد عشر ساعات مثلا، وآخرون يبدؤونه بعد ثلاث عشرة ساعة، فالشروع المباشر في عبادة الصيام أو خروج شهر رمضان ليس متعلقا بنفس اللحظة التي يرى فيها الهلال، وإنما بتوقيت آخر وهو طلوع الفجر. وبهذا فإن القول بوحدة الصيام والإفطار في العالم كله لا يشكل حرجا ما دام هناك فجوة من الوقت يستطيع كل واحد فيها أن يجهز نفسه للعبادة واستقبال الشهر.
أما بالنسبة للكسوف والخسوف فإن الأمر متعلق بنفس لحظة الكسوف والخسوف، بمعنى أنه عندما يبدأ الخسوف في زيمبابوي بتمام الساعة العاشرة ليلا، فإن على مسلمي غواتيمالا أن يبدؤوا الصلاة في نفس اللحظة وإلا لفاتهم الوقت، فلو صلوا بعد خسوف زيمبابوي فإنه لا يعتبر صلاة خسوف، ولا يجوز لهم الإدعاء بأنهم يحاسبون فارق التوقيت بين البلدين. وعلى هذا يقع الحرج والمشقة عليهم، فوجب التفريق بين ما يجب في اللحظة وما يجب بعد فترات متفاوتة على حسب البلدان.

المخرج الرابع: لعلكم استحضرتم العالمية الذاتية في هلال رمضان والخصخصة الذاتية في الكسوف، بمعنى أنكم اعتبرتم أن الهلال يطلع في كل مطلع من مطالع القمر، وفي كل قطر من أقطار العالم وإن تفاوت وقت ظهوره ورؤيته في الساعات والأيام لكنه سيواصل طلوعه في الأقطار المختلفة تباعا وبالضرورة، أما الكسوف فليس له طابع عالمي ذاتي، بمعنى أن الكسوف قد يقع اليوم في غينيا وليس بالضرورة أن يقع بعد ذلك بساعات في ليبيا، وبعده بيوم في تركيا ثم بعده في الصين. فهو يأتي لقطر معين في فترة معينة ثم يغيب وينتهي. وما ليس له طابع عالمي في ذاته فليس جديرا أن يعطى طابعا عالميا في استقباله والترحيب به.
لا أدري هل تشفع لكم هذه المخارج يا السادة، فإن شفعت فالحمد لله، وإلا فإنه جهد المقل من تلميذكم  الذي لم يسره أن يراكم في موقف حرج كهذا!!!


6 comments:

  1. عقلية جبارة وتكتكت فلق

    ReplyDelete
    Replies
    1. بارك الله فيك يا أستاذنا، والله تعليقاتكم تشجعنا على المضي قدما، وأنا بدوري معجب بكتاباتك وإبداعاتك. شكرا لكم.

      Delete
  2. شكرا يا رئيس ....رائع ساعود...

    ReplyDelete
  3. بوركت ووفقت في المخارج هذه................

    ReplyDelete
  4. شكرا لكم يا أحبائي.

    ReplyDelete
  5. جزاكم الله خيرا يا دكتور، ويبدو لي أن المخرج الرابع فقط يكفي بأن يشفع للجمهور

    ReplyDelete