Thursday, December 26, 2013

فصل المقال فيما بين الترحم والإستغفار من انفصال

جاءت التعليقات والردود على مقالة الترحم على غير المسلم متباينة في قوتها وضعفها، ومرارتها وعذوبتها، ولياقتها ومرونتها وشدتها.  وكان أحد التعليقات الذي نال اعجاب كثير من الأخوة هو تعليق أستاذنا الفاضل الدكتور دكوري أبو حكيم حفظه الله، والذي نقل فيه عن بعض المعاجم اللغوية كالتاج واللسان وقاموس المحيط أن الرحمة والمغفرة بمعنى واحد. وفي الحقيقة كنت عزمت أن أضرب عن هذه القضية كسبا للوقت، وحفاظا على الود، ورغبة في توسيع دائرة المتفقات وتحجير دائرة المختلفات، كما أنني لا أريد أن يبق موضوعا واحدا متجاذبا على الصفحة لأيام وأسابيع، فيمل الناس ويسأموا، إلا أن حجم التعليقات وبعض الرسائل الخاصة التي وصلتني مطالبة بتوضيح هذه النقطة  جعلتني ألقي بسهمي من جديد، وها هنا ما أقوله في هذه الجزئية – وهي خاصة بالتفريق فقط بين الإستغفار والترحم-:
لقد قلت في مقالي: أن بين الترحم والإستغفار عموم وخصوص مطلق، فكل غفران رحمة، وليس كل رحمة بغفران. فما معنى هذا الكلام:
دعوني أضرب لكم مثالا حيا بعيدا عن المنطق والأصول، إذا كان بينك وبين أحد من الناس عداوة بسبب ظلم صدر منه تجاهك وصار بينكما هجران فلا يكلم بعضكما بعضا واستمررتم على تلك الحالة، فقدر الله يوما أن تمشي في أرض فلاة ورأيت هذا الرجل ساقطا في بئر فجئت وأنقذته، ثم أعرضت عنه، ولم تغير موقفك منه، هنا أسألك سؤالا:
هل رحمت هذا الرجل بإنقاذه من الموت؟؟؟ طبعا نعم. ولكن هل عفوت عن الظلم الذي صدر منه تجاهك؟ هل غفرت له؟؟ بالطبع لا. والدليل على ذلك أنك ما زلت معرضا عنه ولم تكلمه بعد إنقاذه، بل أعرضت عنه.
فهذا هو معنى الشق الأول: أنه ليس كل رحمة غفران. فأنت رحمت هذا الشخص ولم تغفر له. وهذا يدلك على أنه يمكن أن ترحم شخصا ولا تغفر له.
الآن ما معنى الشق الثاني الذي هو: كل استغفار رحمة: إذا كسر شخص أسنانك، أو قطع أذنك، أو جرحك، وهذا كله فيه قصاص بنص القرآن، فأخذوه إلى العدالة فأصدرت عفوا كاملا عن القصاص والدية. هنا أسألك:
هل رحمت الرجل بتركك الإقتصاص منه؟ بالطبع نعم. هل عفوت عنه أو غفرت له بترك القصاص. حتما نعم.
رأيت كيف أن كل مغفرة رحمة، وليس كل رحمة بمغفرة. فهنا في المثال الثاني الذي هو القصاص، نقول رحمته وعفوت عنه. أما في المثال الأول: فرحمته ولكن لم تعف عنه.
فالرحمة أعم من المغفرة، وهي تقع بطريقة مختلفة: فإذا رأيت شخصا فقيرا وأعطيته رغيف خبر يسد به رمقه، ، أو رأيت طالب علم لا يستطيع سداد رسومه الدراسية فأقوم بدفعها نيابة عنه، أو أرى يتيما مات أبوه فأقوم بكفالته، أو أرى امرأة مطلقة أو أرملا فأتصدق عليها، كل هذا يا اخوان يسمى رحمة ولا يمكن أن يطلق عليها مغفرة في أي قاموس في العالم.
وبناء عليه أقول من باب تأصيل المسألة وتوضيحها: إن الرحمة والمغفرة بينك وبين غيرك تكون على أربعة مستويات:

المستوى الأول: أن لا يكون هناك خلاف سابق بينك وبين ذلك الشخص الذي رحمته وقدمت له معروفا، فهنا لا يمكن إطلاقا أن تستخدم كلمة مغفرة، إذ إن المغفرة تكون بعد خطأ أو ذنب، والرجل لم يصدر منه شيئ من هذا القبيل. فمثل هذا الرجل ترحمه بمال أو خدمة أو غيرها. وليس بينك وبينه قضية مغفرة. وهذا هو أكمل المستويات. وهذا في حق الملائكة الذين فطروا على عبادة الله، فدخولهم الجنة برحمة الله من غير ذنوب مسبق منهم. ويمكن أن نلحق بهم الأنبياء بسبب قلة ذنوبهم وعدم إصرارهم حتى على الصغائر فضلا عن الكبائر.

المستوى الثاني: أن يكون الرجل ممن تعرفه وتكون بينكما علاقة جيدة، ثم يخطئ في حقك، ويظلمك في قضية، وبعد تدخل الناس أو بعد أن يعلن ندمه أمامك ويطلب منك العفو والسماح تسامحه وتعفو عنه، فهنا قد رحمت الرجل وعفوت عنه أيضا. فهذا يسمى رحمة ومغفرة. فيرجع المياه إلى مجاريها الطبيعية، وتؤتيه جميع الإمتيازات التي كان يتستحقها في علاقاتك. وهذا الذي يصدر من الله لعباده المؤمنين، فهم أهل الذنوب، وعلاقتهم بالله جيدة لأنهم لا يشركون به شيئا، وإذا استغفروه غفر لهم وأدخلهم الجنة إما بلا عذاب مسبق أو بعذاب مسبق في جهنم. وهؤلاء الذين نطلب لهم المغفرة التي نهينا عن طلبها لغيرهم في الآيات التي نتعارك حولها، مثل قوله تعالى : (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربي...)
المستوى الثالث: أن يكون الرجل قد ظلمك، وتراه في مشكلة أخرى فتساعده في تلك المشكلة، مثلا يكون ساقطا في بئر فتنقذه، ثم تعرض عنه ولم تتجاوز عن الظلم الذي صدر منه سابقا، فهنا أيضا رحمت الرجل، ولكن لم تعف عنه ولم تغفر له. فكلمة الغفران لا يرد هنا إطلاقا. وهذه مثل الرحمات التي يصدر من الله لعباده الكفرة في الدنيا، فعلى رغم أنهم يعصونه إلا أنه يرحمهم بمائه وهوائه وترابه وأرضه وسمائه، وصحته وعافيته وبالأولاد والأموال وغيرها. ولكن هذا لا يعني أنه غفر لهم ظلمهم وشركهم. وأنا أخاف على الإخوة الذين يعتقدون أن الرحمة والمغفرة بمعنى واحد، أن يراهم مثل هذا الرجل في البئر فلا ينقذهم، لأنه يخاف أن يظن الرجل أنه قد عفا عنه ظلمه، أو أسقط عنه دينه الذي عليه. J

المستوى الرابع: أن يكون هذا الرجل ظلمك في قضية وصار بينكما هجران وانفصال، ثم تراه في مشكلة فتساعده وتنقذه منها، مثلا تراه ساقطا في بئر فتنقذه، وبعد ذلك تعظم في عينه وتكبر في وجهه، فيأتي إليك منقادا نادما، فتتصالحان فتغفر له خطأه وأذيته وأضراره، فأنت هنا قد رحمته أولا بإنقاذه من المشكلة، ورحمته ثانيا بالعفو عنه. فهنا يأتي كلمة غفران أو العفو. وهذا الذي يصدر من الله للعصاة الكبار والكفرة الذين يرجعون إليه بعد المصائب التي ينقذهم منها، فالله يرحمهم بإنقاذهم من موقف لم يكن يخطر ببالهم، فتصالحوا مع الله وأنابوا إليه وتابوا. فالله يغفر لهم ويرحمهم.

المستوى الخامس: أن يظلمك الرجل فلم تعف عنه، بل أصررت على معاقبته، لكنك خففت عنه العقوبة، فمثلا كان يستحق أن يدفع لك مائة ألف، أو يقضي عشر سنوات في السجن، أو كان يستحق الضرب عشرين جلدة، فخففت عنه وعاقبته بنصف هذه العقوبات وذلك بسبب سلوكياته وأخلاقه الجيدة وسمعته الطيبة في المجتمع، فبدلا أن يدفع مائة ألف يدفع خمسين ألفا مثلا. فهنا لم تعف عن الرجل ولم تغفر له، ولكنك رحمته وهو أنك خففت عليه العقوبة. وهذا ما يتفضل الله به على الكافر، وهذا ما فعله لأبي طالب، وهذا ما يمكن أن يفعله لبعض الكفار الذين لهم خيرات كثيرة ولكنهم لم يسلموا، فقلنا أنه يمكن أن يرحمهم ولا يغفر لهم، فيرحمهم بتخفيف العقاب عليهم. وهذا أمر واقع ومشاهد حتى في واقعنا العملي الدنيوي، فإنك تقول لولدك مثلا عندما يخطئ: لا شك أني سأضربك على هذا، ولكن بدلا أن أوجعك عشرة أسواط سأخففه إلى خمسة وذلك أنك حفظت سورة كذا وكذا أمس. فهنا لم تعف عنه ولكن خففت عليه ورحمته. ولما كان هذا الترحم ممكنا، وكان سؤال الله برحمته جائزا، أجزنا الترحم على الكافر المسالم صاحب الخيرات بأن يرحمه الله بهذه الرحمة.
إذا فالسؤال هو لماذا استثنى الله المغفرة من بين أصناف الرحمات التي يرحمها الكافر، الجواب –والله أعلم- أن للمغفرة مميزات خاصة:

الميزة الأولى: خاصية الإستغراق الزمني، فإذا غفرت عن شخص أو عفوت عنه بدون شروط فإن العفو يكون عفوا أبديا مستمرا، فمثلا لو ظلمك شخص وقلت له بأنك عفوت عنه بلا شرط، فإن هذا العفو يكون ساريا اليوم وغدا وبعد غد وإلى يوم القيامة، وكذلك فإن الله إذا عفا عن شخص وغفر له فإنه يغفر له في الدنيا والآخرة، ولا يمكن أن نقول بأن الله غفر له في الدنيا ولم يغفر له في الآخرة، أو أن الله يغفر لك اليوم ولا يغفر لك غدا في نفس الذنب الذي ارتكبته اليوم. أما أصناف الرحمات الأخرى فيمكن أن لا يستغرق الزمن، فيمكن أن تكون جائعا اليوم فأعطيك خبزا، وتكون جائعا غدا ولا أعطيك شيئا.
الميزة الثانية: أن المغفرة تعني إسقاط ما يترتب على الظلم والجور والمؤاخذة عليهما، وبالتالي يتساوى المغفور له مع من لم يظلم ولم يجور فيكونا بمنزلة واحدة، وهذا لا يمكن أن يحدث بين الكافر والمسلم، فلا يمكن أن يكون كلاهما بمنزلة واحدة يوم القيامة ويكونا في الجنة، ولهذا استثنى المغفرة من الرحمة التي يؤتيها للكافر لأن المغفرة يترتب عليه دخول الجنة.
الميزة الثالثة: أنه هو الوحيد من بين أصناف الرحمات التي صرح الله عز وجل أنه لا يفعله للمشرك الكافر، فقال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وبالتالي سؤال الله بالمغفرة للكافر فيه تناقض مع الآية.
بقيت النقطة الأخيرة، وهي لماذا ذكر أصحاب المعاجم أن معان الرحمة المغفرة؟ طبعا كنت أود تحليل كلامهم  بما هو أكثر عمقا وتأصيلا، ولكني رأيت أن ذلك سيأخذ صفحات ووقتا مني ومنكم، ولذلك ضربت عن التطويل صفحا، وأرجو أن تكون هذه الأسطر القادمة تعالج هذه المشكلة المعجمية.
أعتقد أن هناك ثلاثة أمور يجب أن لا ننساها عند تحليل كلام أصحاب المعاجم في التعليق:
الأول: أن هذا الكلام ليس كلاما للزبيدي وإنما هو كلام للفيروزآبادي صاحب (القاموس المحيط) فالزبيدي هو شارح ومستدرك على صاحب القاموس المحيط. وقد ذكر الفيروزآبادي هذا الكلام في قاموس المحيط: وقال: (الرَّحْمَةُ، ويُحَرَّكُ: الرِقَّةُ، والمَغْفِرَةُ، والتَّعَطُّفُ) راجع قاموس المحيط 1/1111. مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر. بيروت. ويبدو أنه بدوره أخذه عن صاحب اللسان الذي هو قبله، فقد توفي صاحب اللسان (711) والفيروزآبادي (817)
الثاني: أن الزبيدي استدرك أو أوضح ما أجمله الفيروزآبادي وصاحب اللسان فقال مستدركا : ((و) قولُ المُصَنّف: الرَّحْمَةُ: (المَغْفِرة، و) الرَّحْمَةُ: (التَّعَطُّف) فِيهِ تَخْصِيص بعد تَعْمِيم كَمَا يَظْهَر من سِياق عِبارة الرَّاغِب) راجع تاج العروس 32/227. دار الهداية
إذا نرى هنا بصريح عبارة الزبيدي أن المغفرة معنى أخص من الرحمة مستندا على ما يظهر من عبارة الراغب.
والنقل الذي نقله أستاذنا عن الزبيدي في تعليقه إنما كان هو نقل عن الزجاج ولم يكن رأيا للزبيدي، ومن يراجع كلام الزجاج في موضعه يدرك أنه يتكلم عن معنى خاص للرحمة. راجع  تاج العروس من جوهر القاموس 4/5

الثالث: أن هذا قد لا يعتبر خطأ  من الفيروزآبادي ولا من صاحب لسان العرب لأن هذا هو شأن أغلب القواميس والمعاجم، ولكنه خطأ ممن ينقل مثل هذا الكلام عنه ويستدل به في المسائل العلمية - مع احترامي الشديد لاخواني الكبار ومشايخي وزملائي- فإن هناك مئات الدراسات اللغوية للبحث في أخطاء المعاجم وحشو أصحابها وإدخالهم بعض المعاني في بعض والتصحيفات وغيرها، وعليه فلا يؤخذ هذه الأمور وكأنها مقدسة، بل نطبق كلامهم على القواعد والأصول والضوابط التي يفسر بها مفردة بأخرى. إذا ما الذي حدث هنا وما الذي يجب أن ننتبه له عند التعامل مع المعاجم:
قبل الإجابة أقول، بأن الألفاظ في جميع اللغات والقواميس والمعاجم لا تخلو العلاقة بين لفظ ولفظ آخر من أربعة أصناف:
الأول: أن يكون بين اللفظين تباين: كالشجر والإنسان. والكافر والمسلم وغيرها. وهذا واضح. والغلط في هذا نادر جدا.
الثاني: أن يكون بينهما التساوي: وأهل المنطق يضربون مثالا على هذا بالإنسان والمتعجب، فكل متعجب إنسان، وكل إنسان متعجب. وقد يضرب به اللغويون وأصحاب المعاجم بالمترادفات اللغوية كالجلوس والقعود، والأسد وغضنفر وهزبر وغيرها. والنزاع في وجود الترادف في اللغة معروفة. وهذا أيضا كثير في المعاجم، وقد يثير نقاشا فقهيا حادا في بعض الموضوعات.
الثالث: العموم والخصوص المطلق. وهذا مثل: الحيوان والإنسان. فكل إنسان حيوان، وليس كل حيوان بإنسان. ومثله ايضا الرحمة والمغفرة في المسألة التي عندنا.
الرابع: العموم والخصوص الوجهي. وهذا مثله مثل الإنسان والأبيض، فبعض الإنسان أبيض، وبعض الأبيض إنسان. وليس كل إنسان بأبيض، وليس كل أبيض بإنسان. وهذا مثله مثل صائم ونائم أيضا. فبعض الصائمين نائمون، وبعض النائمين صائمون. وليس كل نائم بصائم وليس كل صائم بنائم.
وعليه أقول:
يجب التنبه جيدا عند النظر في المعاني والألفاظ ودلالاتها والإستدلال بها في التفريق بين المتساويات وألفاظ العموم والخصوص المطلق، فغالبا يقع فيها أخطاء علمية فادحة من الدارسين والمناقشين.
فما فعله الأحباب والدكاترة بكتاب الزبيدي هنا مثله كمثل أن يصنف أحدنا  قاموسا فيأتي إلى معان (الإنسان) ويذكر أن من معانيه (الرجل). بناء على التغليب الذي نجده في بعض الأحاديث والآيات، مثل قول النبي (صلى الله عليه وسلم) (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر)  فيأتي أحد الدكاترة والمناقشون في نقاش علمي عن مفهوم الإنسان والرجل والتفريق بينهما، فيقول: بـأن معنى الإنسان يساوي الرجل ويرفض التفريق بينهما بناء على أن صاحب المعجم أو القاموس ذكر أن من معان الإنسان الرجل. فنقول له: بأن بينهما عموم وخصوص. فكل رجل إنسان، وليس كل إنسان برجل،بدليل أن عندنا المرأة وهي إنسان وليس برجل. فيصرّ صاحبنا على كلامه. ولم يعرف صاحبنا أنه بهذا القول يخرج المرأة من مفهوم الإنسان كما أخرج نوعيات الرحمة الأخرى كالتصدق على المطلقة والأرمل واليتيم وإطعام المساكين وغيرهما من أصناف الرحمة التي لا تعد ولا تحصى بتبنيه القول بأن المغفرة تساوي معنى الرحمة.
ملاحظة: هذه المقالة ليس الغرض منها التعليق على جميع الردود والتعليقات وإنما لمعالجة جزئية التفريق فقط بين الترحم والإستغفار، إذ إنني لا أستطيع معالجة جميع الردود في مقالة واحدة.


Monday, December 16, 2013

حكم الترحّم على غير المسلم


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلما رأيت إخواني الأجلاء وأحبائي الفضلاء قد اختلفت كلماتهم، ورمى بعضهم بعضا  بسهام، ونال بعض منهم آخرين برصاصات الإتهامات، فريق بالتساهل وآخر بالتشدد، وذلك بسبب قضية الترحم على أموات غير المسلمين، أحببت أن أدلي بدلوي بما رأيته من رأي في هذه المسألة. ولا أخفيكم سرا أني ترددت كثيرا في كتابة هذه الورقة، وكان بودي أن أعثر على بحوث غيري فيها حتى أنأى بنفسي عن المعارك الكلامية، والمناوشات الجدلية، وحتى أسلم من اتهامات من لا يسفعه نفسه سماع مثل هذه الآراء بالتمييع ولي النصوص والخروج على الثوابت والقطعيات، مما حدا بي  للّلجوء إلى عالم غوغل وغيره لأعثر على بحث يتناول القضية بالجدية اللائقة بها، ولكني لم أعثر على ما يشفي العليل ويروي الغليل، وحتى العلامة القرضاوي والذي سبق له أن ترحم على البابا بوليس الثاني على شاشة قناة الجزيرة لم أعثر منه على مقالة أو رسالة أو دراسة تبين وجهة نظره واستدلالاته ومآخذه مع أن الدنيا قامت حينها وقعدت جراء تلك الأدعية والترحمات التي منحها للبابا. فلما رأيت هذه المساحة الفارغة عزمت أمري وعقدت حزمي على المضي قدما في كتابة هذه الورقات، على أمل الغوص في المسألة بشكل أعمق في المستقبل  إن شاء الله.
وقد أثار اهتمامي بهذه القضية ما لاحظته في مناسبات عدة يموت فيها رجل غير مسلم، ويكون مشهورا بإنجازاته الضخام للبشرية في مجال من المجالات كما حدث ذلك في مناسبة وفاة المخترع الأمريكي ستيف جوبز، أو يشتهر بمواقفه الإنسانية وتضحياته الأخلاقية وبطولاته التاريخية كما هو الشأن في الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا الذي توفي قبل أيام، فأرى الناس تشغلهم هذه المسألة، وتتصاعد وتيرة الإختلاف بل يصل الأمر إلى درجة إطلاق الإتهامات على من يترحم على مثل هؤلاء باختراق عقيدة الولاء والبراء وموالاة أعداء الله.
بل إن الأمر لا يتوقف على هؤلاء المشاهير فقط، فقد يحدث أن تموت لرجل مسلم زوجته الكتابية، أو يكون لبعض الذين اعتنقوا الإسلام سواء في الغرب أو في الشرق، في أفريقيا وأوربا وغيرها أقرباء مسلمون وإخوان وأخوات وأصدقاء بل وآباء وأمهات يموت واحد من هؤلاء من الذين لا يعادون اسلامه وكانوا معروفين بالبر به والعلاقة الجيدة معه، فيتردد في الترحم عليهم والدعاء لهم وزيارة قبرهم، فإذا دعا لأحدهم تماطرت عليه الإنتقادات ورأى نفسه محصورا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يستدلون بها على تحريم الترحم على أموات غير المسلمين. ولا زلت أتذكر جيدا أيام صغري عندما يموت لبعض أصدقائنا أو جيراننا غير المسلمين أقرباء لهم، فيدعو الواحد منا ويترحم عليه، يتبادر آخرون مباشرة بالإنكار والزجر، فيشعر الداعي أنه ارتكب جرما كبيرا وإثما مبينا. ولما رأيت أن القضية تتضخم، والمسألة بدأت تأخذ أكبر من حجمها، لجأت إلى قراءة الأدلة في هذا المجال لأخرج منها بما أراه حقا وصوابا إن شاء الله، ولعل الله ينفع بما أكتب في هذا المجال فيخفف حدة السباب والشتام الذي يلجأ إليه بعض المختلفين، ويكون في الأمر سعة إن شاء الله، فيعذر كل واحد منا الآخر ويؤتيه حق الإختلاف وتنوع الرؤى والترجيحات.
هذا وبعد قراءة للأدلة ووقوف على المرجحات والإستدلالات انتهى بي الرأي إلى جواز الترحّم على غير المسلم المسالم المتصالح مع المسلمين، والذي عرف منه حسن المعاملة والإتيان بالخيرات وعدم معاداة المسلمين وعدله وإنصافه وبعده عن الظلم معهم، وذلك لما يلي:
الدليل الأول: أن البر بالأحياء منهم جائز بالنص القرآني فكذلك البر بأمواتهم. فقد قال تعالى" (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ...) ودعوى التفريق بين الأحياء والأموات تحتاج إلى دليل. وقد قال النووي معلقا على حديث إذن الله للنبي يزياة قبر أمه (وفيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى" انظر النووي على مسلم. دار إحياء التراث العربي. 7/45. 
  وهذا الكلام من الإمام النووي يدل على أن لا شيئ يحرم في حق الميت مما كان يجوز في حقه في حياته إلا ما كان لدليل خاص، ولا دليل هنا. ولفظ (الأولى) الوارد في كلام النووي لا يشكل فرقا كبيرا. ولا شك أن مفهوم البر يشمل الدعاء لهم والإحسان إليهم وخاصة إذا كانوا أقرباء أو زوجات أو أصدقاء.
الدليل الثاني: أن المنهي عنه هو خصوص الإستغفار لغير المسلمين وليس عموم الترحم عليهم، فالقارئ المدقق للنصوص التي جاءت في هذا الصدد يجد لفظ (الإستغفار) بارزا بكل ثقله. فاقرأ معي قول البارئ جل جلاله ( ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين...) وقال تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)  وفي الحديث الذي جاء في هذا الصدد والذي هو نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الإستغفار لأمه حيث حدث أبو هريرة رضي الله عنه قال: (زار النبي (صلى الله عليه وسلم) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: (استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)   فواضح من الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهي عن الإستغفار وليس عن غيره وعليه فلا يجوز تعميم هذا الحكم هنا ليشمل الترحم على أقربائنا وأصدقائنا الكفار من الذين لم يعرفوا بعداوة لنا. والإستغفار هو الميزة الكبيرة التي للمسلم الميت على غيره، ولذلك نجده يحتل موقع الصدارة في أدعية النبي لأموات المسلمين (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) (اللهم اغفر لحينا وميتنا...) (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه) فبدأ بالإستغفار له لأنه أخص خصوصيات الميت المسلم.
وقد يقول قائل: وما الفرق بين الإستغفار للميت والترحم عليه؟ فأقول:
إن الإستغفار يتضمن طلب إدخال المستغفر له الجنة، وغفران الله للعبد يستلزم إدخاله الجنة، وليس الأمر كذلك في الترحم، فيمكن أن يرحم الله العبد وإن لم يدخله الجنة، كأن يخفف عنه العذاب مثلا، فالعلاقة بين الترحم والإستغفار علاقة عموم وخصوص مطلق. فالرحمة أعم من الغفران. فكل  غفران رحمة، وليس كل رحمة غفران، وإذا استثني بعض أفراد العام يبقى الحكم ساريا على الأفراد الأخرى، وهذا يعني أنه يجوز الترحم على الكافر مع اعتقاد طلب أصناف الرحمة الأخرى له غير الإستغفار كتخفيف العذاب عنه مثلا مما لا يتضمن طلب إدخاله الجنة.
الدليل الثالث: أن الراجح هو تخفيف العذاب على الكفار الذين عرفوا بخيراتهم وبعض الأعمال الصالحة، وتشديد العذاب على من عرف بشره وبطشه وجبروتيته، وإذا جاز تخفيف العذاب عليهم بهذه الأعمال جاز الدعاء لهم والترحم عليهم بأن يرحمهم الله عز وجل بذلك التخفيف، فقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام البيهقي في البعث والنشور والإمام الحاكم في المستدرك (عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَحْسَنَ مُحْسِنٌ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ إِلَّا أَثَابَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا إِثَابَةُ اللَّهِ لِلْكَافِرِ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ رَحِمًا أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَوْ عَمِلَ حَسَنَةً، أَثَابَهُ اللَّهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالصِّحَّةَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ» ، قَالَ: فَقُلْنَا: وَمَا إِثَابَتُهُ فِي الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: «عَذَابًا دُونَ الْعِقَابِ» قَالَ: وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»
قال الإمام الحاكم في المستدرك ( هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) راجع المستدرك. دار الكتب العلمية. 2/278. وقال البيقهي: (وروي عن عروة بن الزبير بإسناد صحيح ما يؤكد هذه الطريقة)  البعث والنشور للبيهقي. مركز الخدمات والأبحاث الثقافية. 1/62.
ويبدو أن هناك اختلافا في عتبة ابن يقظان أحد رواة الحديث، فقد وثقه ابن حبان في الثقات، وقال عنه الذهبي (واه جدا) وضعفه النسائي ، وقد حكم الألباني على الحديث بأنه منكر بمرة. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة. 14/441. وهم يقصدون بالإنكار هنا إنكار المتن.
ونحن نقول سواء ثبت الحديث أو لم يثبت فإن تشديد العذاب على الكافر لإجرامه وبعده عن الخيرات وتخفيف العذاب عنه لفعله الخيرات وقلة اجرامه وحسن تعامله مع الناس هو ما يترجح إن شاء الله، وسنزيد هذه النقطة إيضاحا عند مناقشة الإشكالات.
الدليل الرابع: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا لعمه أبي طالب أن يخفف الله عليه العذاب وذلك بسبب ذبه عن حياض المصطفى ووقوفه معه ليحصل على حق حرية التعبير لإبلاغ دعوته، فصار أخف أهل النار عذابا،وهذا يجوز لنا الدعاء لآبائنا واخواننا وأصدقائنا ورموز العدالة ومحاربي العنصرية ودعاة الإنصاف ومناهضي الظلم بتخفيف العذاب عنهم إذا ماتوا على الكفر، وأن ندعو الله أن يرحمهم بمنحهم ذلك بفضله عز وجل. ودعوى التخصيص هنا بأبي طالب الذي ذكره بعض علمائنا الأجلاء يحتاج إلى دليل. والفرق الوحيد بين أبي طالب وبين غيره من المعذبين في النار أنه أخفهم عذابا، وليس المعنى أن غيره لا يخفف عليه العذاب، وقد قال تعالى: (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) فدلت الآية أن هناك أشد العذاب، ودل حديث أبي طالب أن هناك أخف العذاب، والناس الآخرون بين هاتين الدائرتين، درجاتهم متفاوتة فيها حسب أعمالهم. بل ورد في حديث مسلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في شأن أهل النار: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته إلى عنقه)
ويرد على هذه الأدلة وعلى هذا القول ثلاثة إشكالات:
الإشكال الأول: أن أمنا عائشة رضي الله عنها سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ابن جدعان، هل ينفعه أعماله التي اشتهر بها في الجاهلية  من صلة الرحم وإطعام المساكين وإكرام الضيف؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) أنها لا تنفعه.  ثم علل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بقوله: (إنه لم يقل يوما ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين) والحديث وارد عند الإمام مسلم.
والجواب عن هذا الإشكال كالتالي: يمكن أن يقال أن قصد النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله (لا ينفعه) أي لا ينفعه بأن يؤهّله لدخول الجنة، وليس أنه لا ينفعه في تخفيف العذاب عليه. والدليل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) في الأخير (إنه لم يقل يوما ربي اغفر لي خطيئتي يوما الدين) ومعروف أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقصد بهذا أنه لم يكن موحدا ولا مؤمنا بالله عز وجل، ولا يقصد أنه لم يقل مجرد هذا الكلام فقط،  فهذا تعبير عن الملزوم باللازم، فالملزوم هو الإيمان بالله وتوحيده، ولازمه طلب المغفرة منه تعالى، ولا وجود للازم دون وجود الملزوم، فالنبي يشير هنا بأنه لم يوجد عنده الإيمان والتوحيد ولذلك لم يوجد عنده الإستغفار،  فبناء على هذا التخريج نصل إلى نتيجة أنه إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أراد أنه لا ينفعه لأنه لم يكن مؤمنا بالله، علمنا من باب اللزوم أن الإنتفاع المنفي هو الإنتفاع الذي ينتج عنه دخول الجنة، لأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر وبالرسل ويستغفر على ذنوبه ولا يشرك بالله شيئا لا ينتفع بهذه الأشياء انتفاعا أوليا بتخفيف العذاب عليه،وإنما ينتفع بها من باب ثقل ميزانه وبالتالي دخوله الجنة دون عذاب أو رفع درجاته في العليين.
وقد قال الإمام البيهقي بعد روايته للحديث المذكور: ( وهذا لا ينفي تحقيق أبي طالب بأنه ينفعه ما صنع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) في التخفيف عنه من عذابه. وقد يجوز أن يكون الحديث ما ورد  من الآيات والأخبار في بطلان خيرات الكافر إذا مات على كفره، ورد في أنه لا يكون لها موقع التخليص من النار وإدخال الجنة، لكن يخفف عنه من عذابه الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها سوى الكفر بما فعل من الخيرات والله أعلم) انظر البعث والنشور للإمام البيهقي ص 62. مركز الخدمات والأبحاث الثقافية. بيروت.
وذكر ابن رجب هذا الحديث عن طريق آخر فقال: (وروى الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، قال: قالت عائشة: يا رسول الله، أين عبد الله بن جدعان؟ قال: في النار، فجزعت عائشة، واشتد عليها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، قال: يا عائشة، ما يشتد عليك من هذا؟ قالت بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ! إنه كان يطعم الطعام ويصل الرحم، قال: إنه يهون عليه بما قلت» ثم قال ابن رجب: "خرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق وهو مرسل"  انتهى كلام ابن رجب. راجع التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) مكتبة المؤيد. ط2. 1/184.
أقول: قد بحثت عن الحديث في كتاب الإمام الخرائطي في الطبعات التي حصلت عليها فلم أعثر عليه، ولعله متوفر في طبعات أخرى، لأن كتاب الخرائطي سقط منه عدد كبير من الأحاديث في أكثر الطبعات. والله أعلم.

الإشكال الثاني: : قول الله عز وجل (نَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) فهذه آية صريحة أن العذاب لا يخفف على الكافر.
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين:
الوجه الأول: أن هذه الآية من قبيل ما يصطلح عليه عند المناطقة بالقضية المبهمة، أو عند الأصوليين بالعام الذي أريد به الخصوص، وهو أن يطلق المتكلم لفظا أو حكما عاما ويكون مراده بعض أفراد العام وليس كلهم، وقد ذهب بعض الأصوليين أن مثل هذا العام يكون مراد المتكلم منه أقل مما ليس بمراده، ولعله يصدق على قول الله تعالى (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) فهذا عام أريد به الخصوص، ومراد المتكلم أقل من غير مراده، فمراده هو شخص واحد فقط وهو  نعيم بن مسعود. وهذا بخلاف العام المخصوص الذي يكون مراد المتكلم فيه أكثر مما ليس بمراده فيخرج بعض أفراد العام ويبقى الأكثر. وهذا يقودنا أن نقول بأن الحكم المذكور في الآية أن العذاب لا يخفف على أهل النار إنما المراد به بعض أهل النار وهم أقل من غيرهم، وهذا صار لهم لما عرفوا به من الكفر الشديد والعداوة الشديدة لأهل الخير والدعوة والإصلاح. ثم ذكر بعض الأصوليين نقطة مهمة جدا في التفريق بين العام الذي أريد به الخصوص والعام المخصوص، فقالوا بأن الأول لا يصح الإحتجاج بظاهره لأن المراد منه أقل، بينما الثاني يصح الإحتجاج بظاهره لأن المراد منه أكثر، وهذا يمهد لنا القول بأنه لا يجوز أن نطلق الحكم على أهل النار جميعا بأنه لا يخفف عليهم العقوبة لأنه المراد منهم أقل ممن ليس بمراد.
 وكما تفهم أن الله لم يقصد بقوله (والناس أجمعين) جميع الناس بجميع أفرادهم، فكذالك يجب أن تفهم أن قوله (فلا يخفف عنهم العذاب) لا يقصد به جميع الكفار بجميع أفرادهم. فأعتقد أنه لا يصعب عليك أن تفهم أنه ليس كل الكفار مشمول بعدم تخفيف العذاب ، كما لم يصعب عليك أن تفهم أنه ليس كل الناس يلعن كل الكفار, فالكافر لا يلعن نفسه، والمشركون والمسيحيون واليهود لا يلعنون أنفسهم، فهذا أيضا من باب العام الذي أريد به الخصوص.
الوجه الثاني: أن المقصود من الآية هو أنه لا يخفف على هؤلاء الكفار العذاب الذي يستحقه كل واحد منهم، يعني بعد أن يقدر الله عذاب كل واحد منهم وأعطاهم التخفيف والمقدار الذين يستحقه كل واحد بعد حساب خيراته وأعماله الإنسانية وأخلاقه وخدماته فإن العذاب المقدر له بعد ذلك لا يخفف عنه، وليس المراد أنهم كلهم متساوون في العقوبة ولا يوجد تخفيف نسبي بينهم في العذاب. فلا شك أن بعضهم أشد عذابا من بعض كما هو ثابت في النصوص الأخرى.
الإشكال الثالث: أن القاضي عياض نقل الإجماع على أن الكفار لا ينتفعون في الآخرة بالخيرات التي عملوها في الدنيا. فقد قال نقل عنه النووي في شرح مسلم قوله: (وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب ، لكن بعضهم أشد عذابا من بعض بحسب جرائمهم) انظر شرح النووي على مسلم. دار إحياء التراث العربي. 3/87.
 ويرد على هذا بجوابين:
الجواب الأول: أن الإجماع المحكي من القاضي غير مسلم، فقد نقل ابن رجب الخلاف في هذه المسألة في كتابه (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) مكتبة المؤيد. ط2. 1/182 فقال رحمه الله: (وأما الكفار، إذا كان لهم حسنات في الدنيا، من العدل والإحسان إلى الخلق، فهل يخفف عنهم بذلك من العذاب في النار أو لا؟ هذا فيه قولان للسلف وغيرهم. أحدهما: أنه يخفف عنهم بذلك أيضاً، وروى ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، معنى هذا القول، واختاره ابن جرير الطبري وغيره) ثم ساق الإمام ابن رجب بعض الأدلة للفريقين.
وإن كنت أر – حسب ما وقفت عليه من كلام ابن جرير الطبري في تفسيره- أن هناك فرقا بين ما قاله ابن جرير الطبري وبين هذه المسألة، فابن جرير يقول بأن الكفار يرون أعمالهم السيئة والخيرة في الآخرة، استدلالا بقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) ولكن لم يصرح بأنه سينتفعون به.بل ظاهر كلامه ينفي ذلك، فالظاهر أنه يرى أنهم يرون أعمالهم كلها ثم يرد عنهم خيراتها. راجع التفسير  طبعة مؤسسة الرسالة. 24/550.
ولكن الإمام البيهقي الذي هو أقدم من القاضي عياض ذكر في كتابه ( البعث والنشور) ص62. ما يدل على عدم وجود هذا الإجماع، حيث قال: (وقد يجوز أن يكون الحديث ما ورد  من الآيات والأخبار في بطلان خيرات الكافر إذا مات على كفره، ورد في أنه لا يكون لها موقع التخليص من النار وإدخال الجنة، لكن يخفف عنه من عذابه الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها سوى الكفر بما فعل من الخيرات والله أعلم) فإذا كان الإمام البيهقي يقول هذا الكلام فمتى حصل الإجماع إذا؟!!!

الجواب الثاني: أن في كلام القاضي ما يرد على مذهبه، وبيان ذلك أن أهل النار إذا كانوا يثابون على الترك فلماذا لا يثابون على الفعل؟ وللتوضيح أكثر أقول بأن القاضي عياض رحمه الله أقر بأن بعض أهل النار يكون أقل عذابا من غيرهم لكونهم تركوا ارتكاب بعض الجرائم، فإذا كان هؤلاء خفف عنهم بمجرد الترك فلماذا لا يخفف عنهم بسبب خيرات فعلوها؟!! بل إننا نعتبر تركهم فعلا، ولكنه فعل امتناعي، يعني نحن هنا لا نسلم للقاضي أن أهل النار لم يثيبوا على خيرات فعلوها حتى على كلامه هو، لأن مجرد الإمساك عن إتيان الشر والجرائم فعل، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالفعل الإمتناعي، والشخص الذي يفعل بعض الخيرات لا شك أنه قد  صدر منه هذا الفعل الإمتناعي لأنه امتنع عن فعل الجرائم أولا، ثم صدر منه الفعل الإتياني وهو أنه فعل الخيرات، فكيف يفضل القاضي عياض الكافر الذي صدر منه الفعل الإمتناعي فقط، على الكافر الذي صدر منه الفعل الإمتناعي وزيادة، وهو الفعل الإتياني الخيري.  أليس الفعل الإتياني أبلغ من الفعل الإمتناعي؟!!
هذا ما تيسر لي كتابته في هذه الورقات، فإن صوابا فمن الله وإن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريئ.
أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يجعل أعمالنا خالصا لوجه الكريم.
كتبه العبد الفقير إلى ربه: عبد الرزاق كابا. كولالمبور. ماليزيا.
15/12/2013 الموافق   15/صفر/1435ه



Wednesday, December 4, 2013

عصر التضليل الرقمي

عندما تنفتح شهيتك للتسوق في بعض الأسواق العالمية بما فيها الأسواق الماليزية فإنك غالبا ستقع ضحية الأرقام، إن التجار الأذكياء يحسنون التعامل مع الأرقام بصورة لا يستوعبها عقولنا في أغلب الأحايين. هل تعرف أين وجدوا ضالتهم في تلك اللعبة الرقمية؟ أجل، لقد وجدوها في الرقم 9.

 والرقم 9 كما تحدّث عن نفسه في مسابقة الأرقام مخاطبا الأرقام الأخرى بافتخار (أنا...أنا... تأملوا جمال التكعيب والانفراد وعندي ينتهي آخر عدد من أعداد الخانة الواحدة)   راجع إبرهيم العجلوني (الصفر سيد الأرقام) في جريدة الرأي الأردنية.

لم يتصدر الرقم 9 قائمة الفائزين في مسابقة الأرقام ولكنه –بلا منازع- حظي بالصدارة في لعبة التجار المهرة، لقد فهم تجار التجزئة سر التصريحات التي أدلى بها الرقم9 (وعندي ينتهي آخر عدد من أعداد الخانة الواحدة) وأعادوا صياغتها كالآتي (وعندي تنتهي أسعار البضائع المعروضة في أسواق الحيل والمكر) ولذلك سيظهر أمامك سعر أغلب البضائع المعروضة في هذه الأسواقمنتهيا بالرقم9، فإذا كانت البضاعة 1000.00 سيسعرون هكذا 999.00، وإذا كانت100.00 يسعرونه ب 99.00، وقد يكون السعر بعد إضافة هامش الربح يساوي في حقيقته 43 ولكنهم سيسعّرونه ب 49. إن السر في هذه اللعبة التجارية يكمن في أن الذهن البشري لا ينتبه كثيرا إلى الكسور التي تضاف إلى الأرقام الصحيحة التي تقع في الجانب الأيسر، وبالتالي فإنه يخيل إليه أن السعر مناسب وأن الرقم 9  يمثل أفضل الأسعار المعروضة على البضائع، وبالتالي يستهلك الكثير، وتزداد الطلبات على البضاعة المعروضة، فالذهن البشري لا يرى المسافة التي تقع بين الخبز الذي يباع ب1.99 والخبز الذي يباع ب1.01 مثل المسافة التي يراها بين الخبز الذي يباع ب 3.00 والخبز الذي يباع  ب 2.01 مع أن المسافتين واحدة!!!

وأكبر تضليل يقع في الأرقام يتمثل في الإقتصاد والسياسة، ففي الجانب الإقتصادي نقرأ على سبيل المثال أن النمو الإقتصادي في أفريقيا قفز من 3% إلى 6% أو أن الناتج المحلي الإجمالي وصل إلى 50 مليار دولار بدلا من 35 مليار، فيقرأ المواطن العادي مثل هذه الأرقام فينبسط أسارير وجهه، وتتسابق الصحف والمجلات الإقتصادية إلى نشر هذه الأرقام دون أن يفحصوا حقيقتها، ويختبروا التلاعبات التي يمكن أن تقع فيها، وقد تسخدم هذه الأرقام الحكومات الفاشلة، وترددها التفلزيونات الرسمية دون أن يعي المواطن العادي معنى (النمو الإقتصادي) أو (الناتج المحلي الإجمالي) إن التركيز على الناتج المحلي الإجمالي على حساب مؤشرات البطالة وتوفير الفرص الوظيفية ورفاهية المواطن والتوزيع العادل للثروة من أخطر وأكبر التضليلات الرأسمالية في عالم الإقتصاد. وعلى شعوب الدول النامية أن لا يغتروا بمثل هذه الأرقام الفلكية، فإن بعضها لا تطعم جائعا، ولا تكسو عاريا ولا يشفي مريضا.
وعندما نضع المجال التجاري والإقتصادي جانبا ونتطرق إلى المجال السياسي فإن الأمر لا يقل خطورة ، فبترجيع شريط الأزمة المصرية وأحداث إسقاط رئيسها المنتخب ديمقراطيا سنلاحظ طريقة التلاعب بالأرقام عبر وسائل الإعلام، فقد أطبقت وسائل الإعلام المحلية المصرية وأكثر وسائل الإعلام العالمية أن عدد المتظاهرين وصل إلى 30 مليون شخص، وبعد تحقيقات من هيئة الإذاعة البريطانية التي تمخضت نتائجها بأن طاقة استيعاب ميدان التحرير لا تكاد تتجاوز (500.000) شخص، كما أن دراسة أخرى أجراها الأستاذ أمجد منذر عبر (غوغل ايرث) تقاربت مع هذه النتيجة، وهكذا دراسة أخرى لصحيفة غادريان البريطانية.  راجع هويدي في الشروق (إنتصار لزمن الفرجة)
بل عندما نراجع العملية الديمقراطية برمتها نجد أن هناك كذبة كبيرة لا زالت كثير من وسائل الإعلام ترددها غداة كل عملية انتخابية، فوسائل الإعلام لا تتورع عن إطلاق تصريحات بأن الحزب الفلاني فاز ب (أغلبية الشعب)، بينما الحقيقية أن الحزب لم يحصل إلا على (أغلبية الناخبين) وليس على أغلبية الشعب، فكثير من الدول الديمقراطية لا يشارك في العملية الإنتخابية فيها أكثر من 50%  من مواطنيها، وإحجام الباقين عن المشاركة يتوزع على كون بعضهم في مناطق نائية أو عدم معرفتهم بالطرق الإجرائية، أو عدم رضاهم بالبرامج السياسية للمرشحين وعدم ثقتهم فيهم، أو أنهم مشغولون ولا يوجد عندهم رغبة شخصية كبيرة في المشاركة، وبالتالي فليس دقيقا أن نطلق الكلام على عواهله بأن الحزب فاز بأغلبية الشعب فهذا لا يخلو من تضليل وخيانة.

وعندما نتجاوز  التضليل الرقمي في التجارة والإقتصاد والسياسة فسنجده منتشرا في مجالات أخرى، فخذ مثلا المجال العلمي، فنحن نقدس الشخصية الكمية على الشخصية النوعية، فعندما نقرأ أن فلانا نشر 120 مقالة وبحثا، وشارك في 90 مؤتمرا محليا وعالميا، وألف 70 كتابا، ولربما يكون مستشارا ل 30 بنكا إسلاميا، فيذهلنا الأرقام ويخرجنا عن صوابنا، ولا يخطر ببالنا أن نسأل ما هي المساهمة الفكرية الإبداعية الحقيقية التي أنتجتها أوراقه ومؤتمراته التي لا تنتهي؟!!!

وفي مجال مواقع التواصل الإجتماعي أصبحنا نقيس مكانة العلماء وحجم الشخصيات بالصفحات المليونية فيسبوكية وتويترية وعدد اللايكات والإعجابات ومرات المشاهدات لمقاطعهم يوتوبية.

إن النبي (صلى الله لعيه وسلم) قد نبهنا إلى خطورة الغرور بالأرقام والإنخداع بها وأنها ليست هي الموازين الحقيقية للقيم المعيارية، فقد تحدث عن الكثرة الغثائية (أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل) بل إن التضاعف الرقمي لم يكن يوما النظرة المعيارية حتى في الهداية، يقول القرآن الكريم (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)
بل إن القرآن الكريم يفضح منطق أولئك الذين اغتروا بالأرقام وضلوا بها وأضلوا، فيقولون (نحن أكثر أموالا وأولادا) فبهذه الكثرة الرقمية الإنخداعية أقاموا نتائج كاذبة وغير حقيقية، فقالوا ( وما نحن بمعذبين)
لقد فهم اليهود أن الخدعة الرقمية لعبة خطيرة ومهمة في عالم السياسة، وهاهم اليهود لا يمثلون في العالم إلا 1% ولا يتجاوز اسرائيلهم خمسة مليون شخص، ولكنهم يتفوقون على 300 مليون شخص من جيرانهم. أين ذهبت الأرقام؟!!!
إن الأرقام أصبحت حاضرة في حياتنا أكثر من أي وقت مضى، وأصبحت شركات الأدوية والمشروبات والأطمعة والحكومات والجامعات والمنظمات والأعمال الإنسانية كلها تقيس بلغة الأرقام، وهذه الأرقام لا شك أنه يمكن التلاعب بها إما في طريقة إعدادها أو اختيار المستهدفين منها، أو أسلوب الأسئلة والأجوبة التي يتلقونها أو يكون هناك تلاعب في طرق عرضها وتوظيفها ولغتها الغامضة أحيانا. وعلى هذا فليس من السهل اليوم فهم لغة الأرقام التي يستخدم من قبل المؤسسات والمنظمات وغيرها، كما أنه ليس من السهل التحقق منها وفحص محتوياتها.

لقد نبهنا الكاتب الفرنسي الشهير أنطوان أكزوبري في روايته الشهيرة (الأمير الصغير) Le    Petit Prince إلى خطورة الإغترار بالأرقام، ويذكر الطفل الصغير بطل الرواية أن كثيرا من الكهول والكبار يغترون بالأرقام ويعتبرونها معيارا للحقائق، فيقول ساخرا منهم ببراعة وهو يخاطب أصدقاءه الصغار ويعتذر لهم "قصصت عليكم قصة الكوكب رقم 612 بتفاصيلها وأطلعتكم على رقمه وذلك لأنّ الكبار يحبّون الأرقام فإذا حدّثتهم عن صديق عرفته حديثاً أغفلوا مزاياه الجوهرية ولم يسألوك عن نبرة صوته ولا عن الألعاب المفضّلة لديه ولا عن هوايته في جمع الفراشات بل يسألونك: كم عمره؟ وكم أخا له؟ وكم وزنه؟ وكم من المال يكسب أبوه؟ فإذا عرفوا كل هذا اعتقدوا أنّهم عرفوه. وإذا قلت للكبار: "رأيت بيتاً جميلاً مبنياً بالقرميد الأحمر وعلى نوافذه الرياحين وعلى سطحه الحمائم..." فلن يكون بوسعهم تصور هذا المنزل. فإذا أردت الإيضاح وجب عليك أن تقول "رأيت بيتاً ثمنه مائة ألف فرنك" فيصيحون قائلين: "ما أجمل هذا البيت!". وإذا قلت لهم: "دليلي على أنّ هذا الأمير الصغير قد وجد حقّاً هو أنه كان فاتن الطلعة وأنه كان يضحك وأنه كان يريد خروفاً ومجرد أنه يريد خروفاً دليل على وجوده"إذا قلت لهم ذلك هزّوا أكتافهم ورفعوها وقالوا: أنت حقا ولد صغير...أمّا إذا قلت لهم: "إن الكوكب الذي جاء منه الأمير هو الكوكب رقم612 " اقتنعوا بكلامك وتركوك وشأنك ولم يزعجوك بأسئلتهم. هم على هذا الدأب فلا لوم عليهم وما على الأولاد إلا أن يتحملوا ويعاملوا الكبار بالحلم والصبر. هذا هو الواقع أمّا نحن الصغار فنفهم معنى الحياة، ولا غرابة في أن نستخف بالأرقام"
هذا ما قاله الطفل الصغير للكبار ساخرا، ولا أظنه جانب الصواب كثيرا، وعليه أقول لكم أخيرا: إن الأرقام مهمة جدا في حياتنا وفائدتها كبيرة وعريضة، ولكنها سلاح ذو حدين، فعلينا أن نتعامل معه بحذر، لأنه يبدو أن حده الأيسر أكثر حدة من حده الأيمن.

Sunday, December 1, 2013

معليش يا أعمامي السلفيون!!!

ليسامحني أعمامي السلفيون على اختلاف أصنافهم وتياراتهم، بس متحير شوي.  ليش ما طلعت السلفية التصنيفية في السعودية (اليسار السلفي) إلا لما ازدهرت زعماء الصحوة؟ ولم تتدخل السلفية النورية البرغماتية المصرية (الوسط السلفي) إلا حين الإطاحة بالرئيس المنتخب؟ والآن نرى السلفية الجهادية (اليمين السلفي) على شوراع تونس للتشويش على النهضة التي  قضت عمرها كلها لمكافحة ابن علي، بينما كانت السلفية التونسية نائمة في ذلك الوقت؟؟؟
هل عرفتم ما ذا توصلت إليه أخيرا؟ توصلت إلى أنكم كلكم مختلفين في المنهج ولكنكم تلتقون في النتيجة. النتيجة أنكم لا تنشطون إلا عندما تكون الصولة والجولة والنفوذ للإسلاميين المعتدلين، أما عندما تخلو الساحة منهم فأنتم تستريحون.
 فلا أدري هل العلمانيون أفضل من الإخوان المسلمين وغيرهم من الجماعات الإسلامية المعتدلة، أم أن العلمانيين أشد إجراما من أن يحاربوا من قبلكم وبالتالي تركتم أمرهم لله؟؟؟ وإذا كان هكذا فيا له من منطق رزين، ففرعون وهامان وقارون زعماء الكفر والضلال حوربوا من قبل الأنبياء!!!إلا إذا قلتم بأن العلمانيين أشد كفرا من فرعون وهامان وقارون، فمن هناك تفحمونني!!
وأمر آخر يحيرني فيكم يا أعمامي – معليش- فأنتم يا السلفية التصنيفية اليسارية (سلفية الجرح والتعديل) تقولون بأن نبدأ بالتوحيد ومنابذة الشرك وأن القبور كثيرة في العالم الإسلامي، ولكنكم لم تبدؤوا بهذا بل بدأتم بالرد على الدعاة وبالجرح والتعديل، فأين القبور والشركيات التي أزلتموها خلال عقدين من الزمن؟؟؟ بالله عليكم، اشتغلوا بالقبور والشركيات شوي بعدين ترجعوا إلى الدعاة.
أما أعمامنا النوريون البرغماتيون المصريون فمع أنهم بنووا أدبياتهم السياسية على أن خلع الرئيس المنتخب للمصلحة وحقن الدماء إلا أنهم لم يتراجعوا ويعلنوا خطأ اجتهادهم بعد أن تبين لهم خطؤه، فهل وصلت البرغماتية إلى هذا الحد الذي يتفوق على برغماتية الإخوان الذين تتهمونهم بأنهم فتحوا دكاكين ومخازين للمتاجرة بالدين والشريعة؟؟
أما السلفية الجهادية فيبدو أنهم أوضح الجماعات طريقا وأشدها اخلاصا –طبعا على طريقة اليمينيين في كل الجماعات-  ولكن – بالله عليهم- متى يوازنون بين المصالح والمفاسد، ومتى يوقفون أسلحتهم عن صدور المسلمين، ومتى يراجعون الحسابات ويوازنوا بين أسامين، أسامة الأول ورث أموالا طائلة من أبيه فبنى آلاف الجامعات والمستشفيات للمسلمين، وتكفل بآلاف الدعاة إلى غرب العالم وشرقه للدعوة ونشر الإسلام، وفتح آلاف القنوات الفضائية الإسلامية ودرب صحافيين وإعلاميين وهندسيين وعلماء جيلوجيا والفلك والحاسوب من المسلمين ليقوموا بتبليغ واجب بناء قيم حضارية للمسلمين، وبين أسامة الثاني الذي كان قصده جيدا إلا أنه اعتقد أن الغاية تبرر الوسيلة فقتل كثير من الأنفس البريئة وغير البريئة، وفجر القنابل في الديار الإسلامية وغير الإسلامية وتسبب في تشويه صورة الإسلام، وأعطى ذرائع للأعداء الإسلام لمزيد من السيطرة والإحتلال،ثم مات ولم يحقق شيئا من أهدافه.  هلا تذكرتم المسافة التأثيرية بين ذاك الكويتي عبد الرحمن السميط الذي جاب الأمصار وأسلم على يديه آلاف الناس في أفريقيا وغيرها  وبين ذلك المجاهد أسامة بن لادن الذي اراد خيرا ولم يصبه!!! لقد فوض كلهم أرواحهم إلى بارئهم ونسأل الله أن يرحمهم ويتغمدهم برحمته ويغفر لهم جميعا، ولكن حتما إن الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله، وقد كفى ثلاثة عقود درسا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأخيرا يا أعمامي من فضلكم لا تصنفوني مع الإخوان من أجل هذه الكلمات، فلست اخوانيا فقط أخ مسلم.
أحبكم جميعا.