Wednesday, December 4, 2013

عصر التضليل الرقمي

عندما تنفتح شهيتك للتسوق في بعض الأسواق العالمية بما فيها الأسواق الماليزية فإنك غالبا ستقع ضحية الأرقام، إن التجار الأذكياء يحسنون التعامل مع الأرقام بصورة لا يستوعبها عقولنا في أغلب الأحايين. هل تعرف أين وجدوا ضالتهم في تلك اللعبة الرقمية؟ أجل، لقد وجدوها في الرقم 9.

 والرقم 9 كما تحدّث عن نفسه في مسابقة الأرقام مخاطبا الأرقام الأخرى بافتخار (أنا...أنا... تأملوا جمال التكعيب والانفراد وعندي ينتهي آخر عدد من أعداد الخانة الواحدة)   راجع إبرهيم العجلوني (الصفر سيد الأرقام) في جريدة الرأي الأردنية.

لم يتصدر الرقم 9 قائمة الفائزين في مسابقة الأرقام ولكنه –بلا منازع- حظي بالصدارة في لعبة التجار المهرة، لقد فهم تجار التجزئة سر التصريحات التي أدلى بها الرقم9 (وعندي ينتهي آخر عدد من أعداد الخانة الواحدة) وأعادوا صياغتها كالآتي (وعندي تنتهي أسعار البضائع المعروضة في أسواق الحيل والمكر) ولذلك سيظهر أمامك سعر أغلب البضائع المعروضة في هذه الأسواقمنتهيا بالرقم9، فإذا كانت البضاعة 1000.00 سيسعرون هكذا 999.00، وإذا كانت100.00 يسعرونه ب 99.00، وقد يكون السعر بعد إضافة هامش الربح يساوي في حقيقته 43 ولكنهم سيسعّرونه ب 49. إن السر في هذه اللعبة التجارية يكمن في أن الذهن البشري لا ينتبه كثيرا إلى الكسور التي تضاف إلى الأرقام الصحيحة التي تقع في الجانب الأيسر، وبالتالي فإنه يخيل إليه أن السعر مناسب وأن الرقم 9  يمثل أفضل الأسعار المعروضة على البضائع، وبالتالي يستهلك الكثير، وتزداد الطلبات على البضاعة المعروضة، فالذهن البشري لا يرى المسافة التي تقع بين الخبز الذي يباع ب1.99 والخبز الذي يباع ب1.01 مثل المسافة التي يراها بين الخبز الذي يباع ب 3.00 والخبز الذي يباع  ب 2.01 مع أن المسافتين واحدة!!!

وأكبر تضليل يقع في الأرقام يتمثل في الإقتصاد والسياسة، ففي الجانب الإقتصادي نقرأ على سبيل المثال أن النمو الإقتصادي في أفريقيا قفز من 3% إلى 6% أو أن الناتج المحلي الإجمالي وصل إلى 50 مليار دولار بدلا من 35 مليار، فيقرأ المواطن العادي مثل هذه الأرقام فينبسط أسارير وجهه، وتتسابق الصحف والمجلات الإقتصادية إلى نشر هذه الأرقام دون أن يفحصوا حقيقتها، ويختبروا التلاعبات التي يمكن أن تقع فيها، وقد تسخدم هذه الأرقام الحكومات الفاشلة، وترددها التفلزيونات الرسمية دون أن يعي المواطن العادي معنى (النمو الإقتصادي) أو (الناتج المحلي الإجمالي) إن التركيز على الناتج المحلي الإجمالي على حساب مؤشرات البطالة وتوفير الفرص الوظيفية ورفاهية المواطن والتوزيع العادل للثروة من أخطر وأكبر التضليلات الرأسمالية في عالم الإقتصاد. وعلى شعوب الدول النامية أن لا يغتروا بمثل هذه الأرقام الفلكية، فإن بعضها لا تطعم جائعا، ولا تكسو عاريا ولا يشفي مريضا.
وعندما نضع المجال التجاري والإقتصادي جانبا ونتطرق إلى المجال السياسي فإن الأمر لا يقل خطورة ، فبترجيع شريط الأزمة المصرية وأحداث إسقاط رئيسها المنتخب ديمقراطيا سنلاحظ طريقة التلاعب بالأرقام عبر وسائل الإعلام، فقد أطبقت وسائل الإعلام المحلية المصرية وأكثر وسائل الإعلام العالمية أن عدد المتظاهرين وصل إلى 30 مليون شخص، وبعد تحقيقات من هيئة الإذاعة البريطانية التي تمخضت نتائجها بأن طاقة استيعاب ميدان التحرير لا تكاد تتجاوز (500.000) شخص، كما أن دراسة أخرى أجراها الأستاذ أمجد منذر عبر (غوغل ايرث) تقاربت مع هذه النتيجة، وهكذا دراسة أخرى لصحيفة غادريان البريطانية.  راجع هويدي في الشروق (إنتصار لزمن الفرجة)
بل عندما نراجع العملية الديمقراطية برمتها نجد أن هناك كذبة كبيرة لا زالت كثير من وسائل الإعلام ترددها غداة كل عملية انتخابية، فوسائل الإعلام لا تتورع عن إطلاق تصريحات بأن الحزب الفلاني فاز ب (أغلبية الشعب)، بينما الحقيقية أن الحزب لم يحصل إلا على (أغلبية الناخبين) وليس على أغلبية الشعب، فكثير من الدول الديمقراطية لا يشارك في العملية الإنتخابية فيها أكثر من 50%  من مواطنيها، وإحجام الباقين عن المشاركة يتوزع على كون بعضهم في مناطق نائية أو عدم معرفتهم بالطرق الإجرائية، أو عدم رضاهم بالبرامج السياسية للمرشحين وعدم ثقتهم فيهم، أو أنهم مشغولون ولا يوجد عندهم رغبة شخصية كبيرة في المشاركة، وبالتالي فليس دقيقا أن نطلق الكلام على عواهله بأن الحزب فاز بأغلبية الشعب فهذا لا يخلو من تضليل وخيانة.

وعندما نتجاوز  التضليل الرقمي في التجارة والإقتصاد والسياسة فسنجده منتشرا في مجالات أخرى، فخذ مثلا المجال العلمي، فنحن نقدس الشخصية الكمية على الشخصية النوعية، فعندما نقرأ أن فلانا نشر 120 مقالة وبحثا، وشارك في 90 مؤتمرا محليا وعالميا، وألف 70 كتابا، ولربما يكون مستشارا ل 30 بنكا إسلاميا، فيذهلنا الأرقام ويخرجنا عن صوابنا، ولا يخطر ببالنا أن نسأل ما هي المساهمة الفكرية الإبداعية الحقيقية التي أنتجتها أوراقه ومؤتمراته التي لا تنتهي؟!!!

وفي مجال مواقع التواصل الإجتماعي أصبحنا نقيس مكانة العلماء وحجم الشخصيات بالصفحات المليونية فيسبوكية وتويترية وعدد اللايكات والإعجابات ومرات المشاهدات لمقاطعهم يوتوبية.

إن النبي (صلى الله لعيه وسلم) قد نبهنا إلى خطورة الغرور بالأرقام والإنخداع بها وأنها ليست هي الموازين الحقيقية للقيم المعيارية، فقد تحدث عن الكثرة الغثائية (أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل) بل إن التضاعف الرقمي لم يكن يوما النظرة المعيارية حتى في الهداية، يقول القرآن الكريم (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)
بل إن القرآن الكريم يفضح منطق أولئك الذين اغتروا بالأرقام وضلوا بها وأضلوا، فيقولون (نحن أكثر أموالا وأولادا) فبهذه الكثرة الرقمية الإنخداعية أقاموا نتائج كاذبة وغير حقيقية، فقالوا ( وما نحن بمعذبين)
لقد فهم اليهود أن الخدعة الرقمية لعبة خطيرة ومهمة في عالم السياسة، وهاهم اليهود لا يمثلون في العالم إلا 1% ولا يتجاوز اسرائيلهم خمسة مليون شخص، ولكنهم يتفوقون على 300 مليون شخص من جيرانهم. أين ذهبت الأرقام؟!!!
إن الأرقام أصبحت حاضرة في حياتنا أكثر من أي وقت مضى، وأصبحت شركات الأدوية والمشروبات والأطمعة والحكومات والجامعات والمنظمات والأعمال الإنسانية كلها تقيس بلغة الأرقام، وهذه الأرقام لا شك أنه يمكن التلاعب بها إما في طريقة إعدادها أو اختيار المستهدفين منها، أو أسلوب الأسئلة والأجوبة التي يتلقونها أو يكون هناك تلاعب في طرق عرضها وتوظيفها ولغتها الغامضة أحيانا. وعلى هذا فليس من السهل اليوم فهم لغة الأرقام التي يستخدم من قبل المؤسسات والمنظمات وغيرها، كما أنه ليس من السهل التحقق منها وفحص محتوياتها.

لقد نبهنا الكاتب الفرنسي الشهير أنطوان أكزوبري في روايته الشهيرة (الأمير الصغير) Le    Petit Prince إلى خطورة الإغترار بالأرقام، ويذكر الطفل الصغير بطل الرواية أن كثيرا من الكهول والكبار يغترون بالأرقام ويعتبرونها معيارا للحقائق، فيقول ساخرا منهم ببراعة وهو يخاطب أصدقاءه الصغار ويعتذر لهم "قصصت عليكم قصة الكوكب رقم 612 بتفاصيلها وأطلعتكم على رقمه وذلك لأنّ الكبار يحبّون الأرقام فإذا حدّثتهم عن صديق عرفته حديثاً أغفلوا مزاياه الجوهرية ولم يسألوك عن نبرة صوته ولا عن الألعاب المفضّلة لديه ولا عن هوايته في جمع الفراشات بل يسألونك: كم عمره؟ وكم أخا له؟ وكم وزنه؟ وكم من المال يكسب أبوه؟ فإذا عرفوا كل هذا اعتقدوا أنّهم عرفوه. وإذا قلت للكبار: "رأيت بيتاً جميلاً مبنياً بالقرميد الأحمر وعلى نوافذه الرياحين وعلى سطحه الحمائم..." فلن يكون بوسعهم تصور هذا المنزل. فإذا أردت الإيضاح وجب عليك أن تقول "رأيت بيتاً ثمنه مائة ألف فرنك" فيصيحون قائلين: "ما أجمل هذا البيت!". وإذا قلت لهم: "دليلي على أنّ هذا الأمير الصغير قد وجد حقّاً هو أنه كان فاتن الطلعة وأنه كان يضحك وأنه كان يريد خروفاً ومجرد أنه يريد خروفاً دليل على وجوده"إذا قلت لهم ذلك هزّوا أكتافهم ورفعوها وقالوا: أنت حقا ولد صغير...أمّا إذا قلت لهم: "إن الكوكب الذي جاء منه الأمير هو الكوكب رقم612 " اقتنعوا بكلامك وتركوك وشأنك ولم يزعجوك بأسئلتهم. هم على هذا الدأب فلا لوم عليهم وما على الأولاد إلا أن يتحملوا ويعاملوا الكبار بالحلم والصبر. هذا هو الواقع أمّا نحن الصغار فنفهم معنى الحياة، ولا غرابة في أن نستخف بالأرقام"
هذا ما قاله الطفل الصغير للكبار ساخرا، ولا أظنه جانب الصواب كثيرا، وعليه أقول لكم أخيرا: إن الأرقام مهمة جدا في حياتنا وفائدتها كبيرة وعريضة، ولكنها سلاح ذو حدين، فعلينا أن نتعامل معه بحذر، لأنه يبدو أن حده الأيسر أكثر حدة من حده الأيمن.

No comments:

Post a Comment