Wednesday, November 20, 2013

قراءة مفاهيمية في قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها)

الأصل في التعبير القرآني تسمية الأشياء بحقائقها، وإطلاق ما يليق بها من الأسماء والألقاب فيطلق على السلوكيات والأخلاقيات الجيدة التعبيرات التي تدل على الصلاح والجودة والحسن، ويطلق على التصرفات والتعاملات السيئة الألفاظ التي تدل على فسادها وقبحها وطابعها الشيطاني، ولكن في الآية التي معنا يبدو أننا نلاحظ عكس ذلك، أو هو ما يتبادر إلى ذهننا منها في الوهلة الأولى، وبيان ذلك كالتالي:
في الآية التي معنا سمى الله عز وجل الظلم الصادر من الظالم بأنه سيئة، وسمى ردة الفعل الصادر من المظلوم بأنه سيئة مع أنه عز وجل يعلن بأن ذلك الفعل الثاني ليس بمعصية وأنه جائز للمظلوم أن ينتقم من الظالم (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) إذا فلماذا سماه بالسيئة مع جوازه وإباحته؟
لقد تأملت في هذه الآية واتهمت في البداية النتيجة التي توصلت إليها، ثم تأملت مثيلاتها فوجدت أن الرب يستخدم نفس الأسلوب في كل منها، فخذ مثلا قوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فسمى الفعل الثاني الصادر من المظلوم بالإعتداء، مع أنه عز وجل يجيزه له ويبيحه، وآية أخرى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) فسمى الرفض والإستنكار والتنديد وصوت الإنزعاج والتمرد الذي يصدر من المظلوم للتعبير عن حريته وكرامته وحقه بأنه (سوء من القول) مع أنه عز وجل يقول بأنه يحب ذلك، لأن قوله عز وجل   (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) يقابله (إن الله يحب الجهر بالسوء من القول من الذي ظلم) إذا فلماذا هذا الأسلوب يكاد يكون مطردا في مثل هذه المواقف؟
يمكننا أن نريح أنفسنا هنا، ونسلك منحى أغلب المفسرين الذين وقفوا عند التحليل البلاغي لهذه الآيات، واكتفوا بالقول بأنها من باب المشاكلة وهي مقابلة اللفظين المتحدين في اللفظ المختلفين في المعنى. إن هذه النتيجة صحيحة ولا غبار عليها، ولكني أرمي من خلال هذه القراءة قراءة أخرى قد نسميها منطقية أو فلسفية إن جاز التعبير. وعليه أقول:
إن هذا الأسلوب التقابلي التشاكلي الحرفي في هذه الآيات تعبير عن معنى شرعي مقاصدي عميق، وهو أن الله عز وجل يقول لنا بأن هذه الأفعال التي تفعلونها وترتكبونها في حالة اضطراكم إليها  على رغم كونها جائزا لكم في تلك الحالة إلا أن ذلك لا يرفع عنها صفة التقبيح والتحريم الشرعي الأصيل فيها-احتراز من التحسين والتقبيح العقلي الإعتزالي- فهذه الأفعال تبقى قبيحة في عين الشرع من حيث الأصالة حتى لو ارتكبتموها في حالة الجواز الإستثنائي، وحرصا على تأكيد هذا المعنى الفلسفي الشرعي العميق فإن القرآن الكريم التزم هذه الألفاظ في مواضعها حتى لا تغيب هذه المعاني عن الأذهان عندما نتعرض للظلم والإساءة، وهذا يقودنا إلى سؤال آخر ناتج عن السؤال الأول، وهو لماذا لا يريد الله عز وجل أن يغيب هذا المعنى الأصيل لهذه الأفعال عن مخيلة المظلوم؟ الجواب: لا يريد الله –إن شاء الله- أن يغيب هذه الأوصاف عن تلك الأفعال في مخيلة المظلوم لوظيفتين أساسيتين:

الوظيفة الأولى: أن استحضار تلك الأوصاف الأصيلة لتلك الأفعال قد يحمل المظلوم على العفو والصبر والتحمل الذي حثه عليه القرآن في بعض هذه الآيات (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) فأنت حينما تستحضر تلك الأوصاف السيئة لتلك الأفعال فقد تجد في نفسك نفورا وكرها وعدم الإرتياح في ارتكابها، وهذا يحدث كثيرا لأصحاب النفوس العظيمة والأشخاص المحترمة، فهم يعفون عن الظالمين ولا يعاملونهم بالمثل لئلا يدنسوا شرفهم وينزلوا بأنفسهم منزلة الظالم ، وربما عفوا عنه وتصالحوا فيما بعد.

الوظيفة الثانية: أن أقل ما قد يفعله ذلك الإستحضار إذا لم يحمل المظلوم على العفو، فإنه حتما سيحمله على الإنصاف والإعتدال وعدم تجاوز الحد في الإنتقام، لأنه يستحضر في ذهنه أن ما يفعله سيئة وظلم من حيث الأصل وإنما أبيح له فقط في ظرف استثنائي فعليه فلن يعتدي ولن يظلم، ولذلك حرص القرآن على ترسيخ هذا المعنى أيضا بقوله (سيئة مثلها) (فاعتدوا عليه بمثل)
إن هذا هذه الآيات تذكرني بالحديث المختلف في صحته (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) فالطلاق معنى سلبي، وهو غالبا يحتل مكانته بعد فترة حب ووئام وانجسام واحتفالات وولائم بين المتزوجين، فأحب الشارع عن يعبر عن حالة انقطاع هذه العلاقة الإجتماعية البالغة الأهمية بأنه (أبغض الحلال) إليه. وقد استغرب بعض الناس مثل هذه التعبيرات وحكموا على الحديث بنكارة المتن من أجل هذا الأسلوب، والحقيقة أن هذا الإستغراب نتيجة وجود فجوة بين مراعاة المعاني السيكلوجية المقاصدية والرحمة الربانية المراعاة في تشريعاته التكليفية للمكلفين وبين النظرة الإنعزالية الظاهرية المجردة للألفاظ بعيدا عن مقاصدها ومراميها، فالشريعة لم تأت إلا رحمة للعالمين، وهي قننت من قبل الله لتعزيز أواصر الرحمة والأخوة والتعايش والحياة الكريمة في الدارين لأتباعها المؤمنين، فكل ما يؤثر على حياة هؤلاء الأتباع سلبا فإن الشارع لا يحبه من حيث الأصالة وإن أباحه في حالة الضرورة والحاجة أو المصالحة عليه بين الزوجين، ومن هنا جاء التعبير الحديثي عن هذا المعنى ليظل هذا الوصف حاضرا في ذهن الرجل الطالق، ويتذكر أن ما يقدم عليه ليس من الأمور المحمودة لدى الشرع من حيث الأصل. وسأتعرض لتفاصيل أكثر لهذا التعبير وبعض المعاني الدقيقة فيه إن شاء الله في المستقبل.
وعودة إلى الآيات السابقة، فقد يشكل بعض الناس النتيجة التي توصلت إليها مع بعض الآيات الواردة في حق الله عز وجل. مثل قوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله) (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا) (الله يستهزئ بهم...) فيثور سؤال: هل الله في هذه الآيات يريد أن يذكّر نفسه بأن هذه الأفعال التي يقوم بها ليست جيدة من حيث الأصالة؟

الجواب أن نقول: بأن هذه الأوصاف التي جاءت المشاكلة بها في هذه الآيات المتعلقة بالله عز وجل تحدثت عن أوصاف محددة مفصّلة تختلف عن الأوصاف التي جاءت في الآيات الأولى المذكورة أعلاه. فوصف (المكر، الكيد، والإستهزاء) هي تعبيرات جزئية نوعية قد تندرج تحت مفاهيم كلية- طبعا هذه الأشياء قد تعتبر كلية نسبية حسب جزئياتها أيضا- وبتعبير فلسفي أو منطقي فإن الألفاظ الواردة في الآيات الأولى التي تحدثت عنها هي مفاهيم كلية (السيئة، السوء، الإعتداء) بينما الأوصاف الواردة في حق الله عز وجل هي تعبير عن مصاديق هذه المفاهيم، ومعروف أن المفاهيم أكثر شمولية وإطلاقية وعمومية من المصاديق، فبينما لا يختلف كثيرا في وجود المفاهيم الكلية إلا عند الفلاسفة التجريبيين الذين ينكرون وجود المفاهيم الكلية، فإن تصديق هذه المفاهيم على (الماصدق) من المصاديق قد يكون متنازع فيه وربما محتملة. وهنا لما كانت هذه الجزئيات النوعية (المكر، الكيد، الإستهزاء) متأرجحة بين أن يكون أحيانا للخير وأحيانا للشر، لم يكن هناك غضاضة أن يصف الله به بعض أفعاله في حالات معينة، أما المفاهيم الكلية المتضمنة للمصاديق السلبية السيئة فلا يصف الله بها نفسه كما فعل في الآيات المتعلقة بالإنسان، فلم يقل الله أبدا في القرآن (يعتدون ويعتدى الله عليهم) أو (يظلمون ويظلمهم الله) أو (يسيئون ويسيئ الله إليهم) بل إن الله نفى الظلم المقابل فقال (وماظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (وما ظلمناهم ولكن أنفسهم يظلمون) فمن هنا نفرق بين المصاديق المحتملة في اندراجها تحت الكليات، وبين المفاهيم الكلية التي لا يشك أنها تتضمن جزئيات تصدق عليها تلك المفاهيم الكلية، وكذلك نفرق بين المصاديق القطعية التي تندرج تحت المفاهيم الكلية كالخيانة في اندراجها تحت الظلم، وبين المصاديق الجزئية الظنية التي تندرج تحت المفاهيم الكلية كالمكر في احتمال اندراجها تحت الظلم، ولذلك وصف الله نفسه أنه يمكر بالكافرين ولم يقل بأنه يخونهم، فقد جاء في القرآن (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ولم يقل فخانهم، لأنه من المصاديق القطعية للظلم.

يا رب غفرانك إن كنت مخطئا، لا حول ولا قوة إلا بك، أنت تعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب.
                                                      

Thursday, November 14, 2013

إزالة الإشكالية عن أحاديث عاشوراء

قال صاحبي على صفحتي فيسبوكية بأنه يرى تعارضا بين أحاديث عاشوراء، وقال موضحا لأحد أوجه هذا التعارض:
"متى أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بصيام عاشوراء؟ فالظاهر –لدي- من رواية ابن عباس "لما قدم المدينة وجد اليهود..." انها في السنة الأولى، بينما الرواية الأخرى "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع..." تدل أنها في السنة الأخيرة حيث لم يدركه النبي (صلى الله عليه وسلم) أي بعد أن أجلى اليهود من المدينة بسنوات"
  ثم قال صاحبي متسائلا باستنكار: "يا ليت  علمي أ وافقهم في الصوم لما كانوا حاضرين معه في المدينة وبعد إجلائهم نوى مخالفتهم بصوم التاسع والعاشر؟!!!
وأنا هنا أحاول بيان عدم التعارض بين الحديثين سائلا الله التوفيق والسداد، فأقول:
إن الحديثين اللذان أشار إليهما صاحبي مرويان من صحابي واحد، وهو ابن عباس رضي الله عنه، وسأورد الحديثين بلفظهما ثم أجيب على التعارض المذكور.
الحديث الأول:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» ، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ" البخاري 3/44  دار طوق النجاة، الطبعة الأولى.
الحديث الثاني:  
 عن غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" صحيح مسلم 2/797. دار إحياء التراث العربي. تحقيق فؤاد عبد الباقي.

تحليل الحديثين والإجابة على الإشكالية
غالبا عندما نريد الإجابة على الإشكاليات، فنجد أن النظر في ثنايا النص والتدقيق في ألفاظه ومقارنة الروايات بعضها ببعض تحمل في طياتها حلا للإشكالية المطروحة، فدعونا نطبق هذه الفرضية على هذين الحديثين.
إن الحديث الأول الذي ورد فيه  (فوجد اليهود يصومون...) ذكر فيه ابن عباس أن السائل هو النبي (صلى الله عليه وسلم) والمجيبون هم اليهود، وهذا واضح في جميع الروايات المختلفة للحديث، فالسائل كان هو النبي والمجيبون هم اليهود.
أما الحديث الثاني (فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ) فذكر فيه ابن عباس أن السائلين والمستفسرين هم الصحابة والمجيب هو النبي (صلى الله عليه وسلم)
إذا ماذا يقول لنا اختلاف السائل والمجيب في الحديثين؟ لماذا النبي في الحديث الأول هو السائل واليهود هم المجيبون، ولماذا النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الثاني هو المسؤول والصحابة هم السائلون؟ إن الجواب على هذا السؤال هو الجواب على الإشكالية، والجواب على السؤال كالتالي:
 إن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما سأل اليهود وبينوا له السبب، ثم أمر النبي بعد ذلك بصيام عاشوراء، كان الأمر طبييعا بالنسبة للصحابة، فالأمر كان في بداية الهجرة وفي السنة الأولى منها، واليهود لم ينقضوا العهد بعد، ولم يجلوا من المدينة ولم يصبح بينهم وبين المسلمين حروبا طاحنة، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) في تلك الفترة يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيئ كما جاء ذلك في البخاري، إذا الأمر في هذه اللحظة لم يثر قلق الصحابة ولا تساؤلاتهم الكثيرة ولم يروا فيه تناقضا بين المنهج النبوي الذي اتبعه بعد ذلك في المخالفة الكثيرة لأهل الكتاب، ولذلك نجد أنه في هذه المراحل كان صيام عاشوراء العاشر فقط ولم يتحدث النبي (صلى الله عليه وسلم) عن التاسوعاء،  ولكن بعد فرض رمضان وطرد اليهود من المدينة، وحصول الحروب، وأصبح النبي (صلى الله عليه وسلم) يحب مخالفة أهل الكتاب، وصار هناك أحاديث كثيرة في التحذير من اتباعهم، وأمر بمخالفتهم في أشياء كثيرة، وعرف الصحابة ذلك عنه وقدعرفوا أيضا العداوة الشديدة لليهود تجاه المسلمين، فمن هناك جاء الصحابة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقالوا: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ)
فقول الصحابة للنبي (صلى الله عليه وسلم) (إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى) لا شك أن هذا من باب الإلحاح والإخبار المصاحب بالقلق وعدم الإرتياح وإظهار لرغبتهم الجامحة في مخالفة اليهود في صيام عاشوراء، وإلا لا يعقل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان هو الوحيد الذي لم يكن يعرف أن اليهود يصومون يوم عاشواء، وبقية الصحابة يعرفون ذلك.
وبهذا يزول الإشكال بين الحديثين إن شاء الله، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.

Thursday, November 7, 2013

خاطرة قرآنية (3) (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا)



من فضلكم إذا أسند إليكم مهمة لتوفر شروطها الأساسية فيكم فلا تبخلوا على أنفسكم وعلى أصدقائكم الذين يتوفر فيهم بعض الشروط التكميلية والتي لا تتوفر فيكم أن تستشيروهم وتطلبوا مساعدتهم ومصاحبتهم وانضمامهم، فموسى عليه الصلاة والسلام توفر فيه الشروط الأساسية والمتطلبات الضرورية للرسالة والنبوة والذهاب إلى فرعون، ولكنه لاحظ أن بعض الشروط التكميلية غير متوفرة فيه فسأل الله صحبة أخيه هارون (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردئا يصدقني، إني أخاف أن يكذبون) فطلب انضمام أخيه لأنه أفصح منه لسانا.
ومن هنا نعرف أن توفر الشروط الضرورية في الشخص لا يدل على توفر جميع الشروط التكميلية فيه، وهذا ما يدعونا إلى مراعات التكامل وتعزيز روح الفريق.
لعلك تلاحظ معي أن موسى عليه الصلاة والسلام قد سلم هنا من خطأين استراتيجيين كبيرين يصاب بهما كثير من القيادات والرموز والشخصيات ومدراء الشركات والجامعات والمدارس والمعاهد في أفريقيا والدول العربية:
الخطأ الأول: اعتقادهم أن المهمة أسندت إليهم لتوفر جميع المتطلبات اللازمة فيهم، فيخيل إليهم توافرهم على الشروط الضرورية والتكميلية والتبعية، مع أنه ليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك، وبالتالي هذا يقودهم إلى عدم الإستعانة بالآخرين والإستفادة من الآراء وتفويض بعض المهامات وأمور أخرى كثيرة. وهذا خطأ استراتيجي سلم منه موسى عليه الصلاة والسلام.
الخطأ الثاني: عندما يخيل إليهم توفر جميع نوعيات الشروط فيهم، تجدهم يعتقدون باطلا أن شخصهم وشخصيتهم أهم من المهمة نفسها، وهذا يزرع في نفوسهم الغطرسة والتبختر والعنجهية، فيرى كل شيئ في ذاته، ويرى أن اسمه أصبح أهم شيئ في الشركة أو المؤسسة أو غيرها، فتجده ليس فقط لا يستشير أصحابه وأصدقاءه وشركاءه وإنما يحاول إيصال رسالة مؤلمة إليهم بأنه هو الشركة، والشركة هو، وأنه عظيمهم وكبيرهم الذي لا يعصى له أمر. ومن هنا تسقط الرسالة والمهمة التي اسندت إليهم وتنهدم المؤسسة خاوية على عروشها. أما موسى عليه السلام قد عرف أن المهمة أهم من شخصه هو ولذلك عمل على إيجاد كل ما يكون في صالح الوظيفة حتى وإن كان ذلك يتطلب توجيه الكاميرا وتسليط الأضواء على شخص آخر غيره.
فمتى يفهم مديرو الأفارقة والعرب وقياداتهم ورموزهم أن تعيينهم أو انتخابهم لا يدل على توفر جميع المتطلبات التكميلية فيهم؟ فإذا كان موسى عليه الصلاة والسلام الذي اختير من قبل رب العالمين لم يعتقد أن جيمع المتطلبات التكميلية متوفرة فيه، فكيف يظن من اختير من قبل البشر أن جميع المتطلبات التكميلية متوفرة فيه؟!!!

Monday, November 4, 2013

بين خصخصة الكسوف وعولمة هلال رمضان


خطر ببالي - وأنا أقرأ منشورات زميلي أبي جميلة سليمان ينغادو وفارس أفريقيا محمد الأمين سوادغو عن الكسوف الحادث في غرب أفريقيا قبل يوم- عدم تقاتلنا على عولمة الكسوف والخسوف كما تقاتلنا فقهيا على عولمة دخول شهر رمضان وخروجه!!! وقلت أليست هذه كلها متعلقة بالفلكين (القمر والشمس) ورؤيتهما؟ فلماذا احتدم النقاش في الثاني دون الأول؟
وقبل أن أذهب بعيدا دعوني أوضح نقاطي أكثر، فأقول: لقد ثار جدل كبير –كما لا يخفى على شريف علمكم- حول ما إذا رئي الهلال في جزر القمر أو في مالاوي أو جامايكا هل يجب على مسلمي الأرض صيام رمضان وإفطاره؟ والذين قالوا بأن رؤية المسلمين في قطر تعتبر رؤية لجميع المسلمين في جميع الأقطار استدلوا في ذلك بحديث البخاري (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته....) وقالوا بأن الخطاب هنا للمسلمين جميعا، فإذا رآه بعضهم حقيقة وحسا فقد رآه كلهم معنا واعتبارا.
فالسؤال الذي يطرحه خاطري على سادة هذا القول هو: لماذا لم تقولوا بنفس القول في الكسوف والخسوف؟ لماذا لم تقولوا بأن خسوف دكار وسريلنكا وألبانيا يعتبر خسوفا للمسلمين كلهم؟ ألم يستخدم النبي (صلى الله عليه وسلم) نفس الأسلوب الخطابي هنا تماما مثل ما استخدمه في قضية رؤية هلال شهر رمضان؟ ألم يقل النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في البخاري أيضا (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعو الله) لاحظوا يا السادة نفس لفظ (الرؤية) في كلا الحديثين، ونفس أسلوب الخطاب الجمعي (صوموا) جمع مذكر بصيغة الطلب، (فصلوا وادعوا) جمع مذكر بصيغة الطلب أيضا، إذا فما الذي اختلف هنا يا السادة؟!!!
طبعا سأحاول أن أجد لكم بعض المخارج:
المخرج الأول: أنكم أعجبتكم عولمة الفرح والسرور كما أعجبتكم خصخصة الخوف والذهول، أقصد أن دخول رمضان يمثل إيذانا بموسم الخيرات والبركات والطاعات وغفران الذنوب والعتق من النيران، وخروجه يمثل فرحا وسرورا وبهجة وجمالا، أما كسوف الشمس أو خسوف القمر فإنه يمثل الخوف والذهول، ولذلك مرة خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في البخاري أيضا يجر إزاره إلى صلاة الكسوف. مما يدل على أن الأمر يتطلب السرعة والمبادرة واستدعاء الرأي العام والذهنية الجمعوية لتدارك الموقف واحتواؤه بذكر الله والصلاة والدعاء. وفي قوله  (فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلّوا )  ينبئ بأن الحادثة تحتاج إلى توبة وإرضاء الله وذكره كثيرا حتى يذهب الوضع وينصرف.
أقول: إنه وبالنظر إلى هذه الزاوية فأنتم تريدون أن يشترك المسلمون في الفرح والسرور جميعا ويستشعروا كلهم فرحة اليوم وغبطته، ويكون شعارا لوحدتهم وتلاقحهم. أما مناسبة الحزن والخوف فأردتم تحجيره وتضييق دائرته فلم يكن بودكم أن تعولموه وتكوكبوه.
المخرج الثاني: أنكم اعتبرتم عامل الوقت والزمن، وذلك أنه ولقصر عمر الكسوف والخسوف الذي قد لا يأخذ أحيانا أكثر من نصف ساعة أو ساعة أو أقل أو أكثر فإن الأمر يصعب تصديره وإعطاءه الطابع العالمي، فالأخبار مهما كانت متسارعة في يومنا هذا، ومع وجود الشبكة العنكبوتية والأقمار الصناعية فإنه يصعب رصد بداية الكسوف الحادث في القاهرة مثلا ووقت انجلاءه هناك من أهل الرياض وباريس وغيرها، فلو قلنا بعولمة الكسوف أو الخسوف لانكشف القمر دون أن يعرفه الآخرون في الأقطار الأخرى فيستمروا في الصلاة والدعاء مع أن الأمر قد انجلى في موقع الحدث، أما هلال شهر رمضان وخروجه فإنه يعتبر حادثا متعلقا بشهر كامل وبعبادة كاملة وبأمور جوهرية تأخذ حيزا كبيرا من الإستعداد ونشر المعلومات وتبادل الأخبار والإهتمام من جميع الشرائح. فقد اعتبرتم عامل الوقت والزمن هنا.
وقد يقول قائل بأن علماء الفلك في هذه الأيام يحددون بالضبط متى يبدأ الخسوف ومتى ينتهي، فلا يوجد مشكلة في معرفة وقت الصلاة وانتهاؤها في أي قطر في العالم، فأقول بأن هذا فيه صعوبة التوقيت ومعرفة تقاطع المواقيت وحساب الفروقات بينها مع الأقطار الأخرى. إضافة إلى أن الحسابات الفلكية على رغم دقتها فليست قطعية.
المخرج الثالث: أنكم راعيتم مبدأ رفع الحرج عن الأمة. وبيان ذلك أن صيام رمضان وخروجه متعلق بخروج الليل ودخول النهار في جميع الأقطار، فبالإجماع أنه لا يجوز ابتداء الصيام في لحظة رؤية الهلال، وإنما يبدأ الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بمعنى آخر أن رمضان لا يشكل حرجا للناس إذا قلنا أن يصوموا معا، لأن العبرة بخروج الليل ودخول النهار في كل قطر من أقطار العالم، فلو رأينا القمر في غانا مثلا فإنهم قد يبدؤون الصوم بعد عشر ساعات مثلا، وآخرون يبدؤونه بعد ثلاث عشرة ساعة، فالشروع المباشر في عبادة الصيام أو خروج شهر رمضان ليس متعلقا بنفس اللحظة التي يرى فيها الهلال، وإنما بتوقيت آخر وهو طلوع الفجر. وبهذا فإن القول بوحدة الصيام والإفطار في العالم كله لا يشكل حرجا ما دام هناك فجوة من الوقت يستطيع كل واحد فيها أن يجهز نفسه للعبادة واستقبال الشهر.
أما بالنسبة للكسوف والخسوف فإن الأمر متعلق بنفس لحظة الكسوف والخسوف، بمعنى أنه عندما يبدأ الخسوف في زيمبابوي بتمام الساعة العاشرة ليلا، فإن على مسلمي غواتيمالا أن يبدؤوا الصلاة في نفس اللحظة وإلا لفاتهم الوقت، فلو صلوا بعد خسوف زيمبابوي فإنه لا يعتبر صلاة خسوف، ولا يجوز لهم الإدعاء بأنهم يحاسبون فارق التوقيت بين البلدين. وعلى هذا يقع الحرج والمشقة عليهم، فوجب التفريق بين ما يجب في اللحظة وما يجب بعد فترات متفاوتة على حسب البلدان.

المخرج الرابع: لعلكم استحضرتم العالمية الذاتية في هلال رمضان والخصخصة الذاتية في الكسوف، بمعنى أنكم اعتبرتم أن الهلال يطلع في كل مطلع من مطالع القمر، وفي كل قطر من أقطار العالم وإن تفاوت وقت ظهوره ورؤيته في الساعات والأيام لكنه سيواصل طلوعه في الأقطار المختلفة تباعا وبالضرورة، أما الكسوف فليس له طابع عالمي ذاتي، بمعنى أن الكسوف قد يقع اليوم في غينيا وليس بالضرورة أن يقع بعد ذلك بساعات في ليبيا، وبعده بيوم في تركيا ثم بعده في الصين. فهو يأتي لقطر معين في فترة معينة ثم يغيب وينتهي. وما ليس له طابع عالمي في ذاته فليس جديرا أن يعطى طابعا عالميا في استقباله والترحيب به.
لا أدري هل تشفع لكم هذه المخارج يا السادة، فإن شفعت فالحمد لله، وإلا فإنه جهد المقل من تلميذكم  الذي لم يسره أن يراكم في موقف حرج كهذا!!!