Monday, October 19, 2015

الفرق بين من فقه الفقه وبين من لم يفقهه




كتب مالك موطأه، وأعجب به أبو جعفر المنصور وأراد أن يحمل عليه الناس جميعا، فقال له الإمام "يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورددوا روايات ، وأخذ كل قوم مما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم وأن ردهم عما اعتقدوا شديد ، فندع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم . فقال : لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به"
فانظر إلى موقف هذا الإمام الجليل من كتاب ألفه جامعا فيه أقوال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤسس على مذهب أهل المدينة، ومع ذلك رفض إلزام الناس به وفرضه عليهم.
وعلى الدرب نفسه نرى الإمام المطلبي الشافعي يسير، ومن بحره ينهل، فقد قال رحمه الله بعد أن ألف كتبه التي أنارت الدنيا وملأها علما وضياء "لقد ألفت هذه الكتب ولم آل جهدا فيها, ولابد أن يوجد فيها الخطأ, لأن الله تعالى يقول: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة, فقد رجعت عنه"
ونأتي الآن إلى عالم آخر لم يبلغ شأوهم، ولم يغترف مثل غرفتهم، وليس له من الشهرة والعلم والمكانة ما عندهم، ولكن نجده عندما ألف كتابا في القرن الرابع الهجري، يقول عن الكتاب:
"جميع ما وصفت لك في هذا الكتاب فهو عن الله تعالى، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وعن التابعين، وعن القرن الثالث إلى القرن الرابع.
فاتق الله يا عبد الله! وعليك بالتصديق والتسليم والتفويض والرضا بما في هذا الكتاب، ولا تكتم هذا الكتاب أحداً من أهل القبلة، فعسى الله أن يرد به حيراناً عن حيرته، أو صاحب بدعة عن بدعته، أو ضالاً عن ضلالته؛ فينجو به.
فاتق الله، وعليك بالأمر الأول العتيق، وهو ما وصفت لك في هذا الكتاب، فرحم الله عبداً ورحم والديه قرأ هذا الكتاب وبثه وعمل به ودعا إليه واحتج به، فإنه دين الله ودين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه من استحل شيئاً خلاف ما في هذا الكتاب؛ فإنه ليس يدين لله بدين، وقد رده كله، كما لو أن عبداً آمن بجميع ما قال الله تبارك وتعالى إلا أنه شك في حرف فقد رد جميع ما قال الله تعالى وهو كافر، كما أن شهادة أن لا إله إلا الله لا تقبل من صاحبها، إلا بصدق النية وإخلاص اليقين، كذلك لا يقبل الله شيئاً من السنة في ترك بعض، ومن ترك من السنة شيئاً فقد ترك السنة كلها، فعليك بالقبول، ودع عنك المحك واللجاجة؛ فإنه ليس من دين الله في شيء، وزمانك خاصة زمان سوء فاتق الله"
والغريب أنه بعد ذكر هذا الكلام أورد المؤلف بعده حديثا ضعيفا إن لم يكن موضوعا، فقد أورد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال ((إياكم وذكر أصحابي وأصهاري وأختاني)) وغيرها من الأحاديث، بل أورد مسائل عقدية وفقهية غير مجمعة عليها، ومع ذلك شهد على كتابه بأنه الهدى المتبع والصراط المستقيم!!!
رحمهم الله جميعا.

Wednesday, September 9, 2015

نصيحة لإخواننا الطلبة في البلد




من الأخطاء التي يقع فيها بعض اخواننا الطلاب من خريجي الكلية في البلد والذين لم يتسنى لبعضهم فرصة الالتحاق بالجامعات العربية في مرحلة دراستهم لمستوى الليسانس، أن بعضهم يبقى محاولا الالتحاق بالجامعات الخارجية عبر شهاداتهم الثانوية في نفس التخصص الذي تخرجوا به من الكلية في البلد، متخيليين خطأ أن الدراسة في تلك البلدان متفوقة بشكل خيالي على ما درسوه في البلد، وأنهم سيعيشون في عالم مختلف تماما عن العالم الذي يعايشونه الآن، وأن بين مدرسي بلدانهم ومدرسي تلك الجامعات الخارجية مسيرة سبعين ألف خريف، وأن الكتب الدراسية مختلفة اختلاف السماء والأرض ... إلى آخر القائمة المتوهمة!!!
والحقيقة أن هذا وهم بعيد عن الواقع، فالمسافة بين الجامعات الخارجية والداخلية كبيرة طبعا ولكن ليست فضفاضة بهذه الدرجة المتوهمة، فالطالب الذكي المجتهد يستطيع أن يسد هذا الفراغ بطرق مختلفة وخاصة في عصر الثورة المعلوماتية، وقد رأيت من الطلاب الغيينين المتفرنسين والذين كانوا يدرسون في السنة الثانية والثالثة في البلد، لما سنحت لهم فرصة الالتحاق بالجامعات الماليزية جعلوا تلك البرنامج وراءهم ظهريا، ثم بعد سنتين في ماليزيا بدؤوا يتحدثون بلغة الندم والغباوة التي ارتكبوها، وتمنوا لو أنهوا تلك المرحلة الجامعية في البلد ثم واصلوا الدراسات العليا في ماليزيا.
فأنصح اخواني الذين لم يتسنى لهم فرصة الدراسة الخارجية بأمرين:
1-           لا تضيع عمرك كله منتظرا القبول من الخارج، بل التحق بالجامعات والكليات المحلية، فما لا يدرك كله لا يترك جله، وأنت بمهاراتك وذكائك واجتهادك يمكن أن تتفوق على بعض أولئك الذين تسنى لهم الدراسة الخارجية.
2-           إذا كنت ممن أنهى دراسته في احدى الجامعات المحلية وعندك شهادة الكلية، ولم تزل مصرا على الالتحاق بالخارج فأنصحك أن تقدم الطلب بشهادتك الجامعية لتلتحق بالدراسات العليا في الخارج، فتكفيك مدة سنة واحدة لتتكيف مع البيئة الجديدة التي ستواجهها، وتساعدك البرامج وورشات العمل والدورات وغيرها في ملاحقة السابقين، هذا إن كان في نفس التخصص، أما إذا كنت عازما على تنويع التخصص فلا بأس أن تقدم الطلب في الجامعات الخارجية بشهادتك الثانوية.

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضى.

Thursday, January 1, 2015

الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله

إذا قيل لك ( كسّر هذا الزجاج) قد تكون العملية سهلة، لأنها لا تتطلب إلا إنهاء الزجاج والقضاء عليه، وهذا قد يتم في طرفة عين، أما إذا قيل لك: احتفظ بهذا الزجاج فلا ينكسر، فإن العمل هنا قد يتطلب مجهودات كبرى، لأن الزجاج نفسه قابل للإنكسار.
والواقع أن أغلب النفوس والفهوم تتوهم أحيانا أن كسر الزجاج هو الذي يمّثل الشجاعة الكبرى، والتضحية العظمى أكثر من إبقائه مع المحافظة عليه من الفساد والدمار والهلاك.
وهذه الأغلوطة والتوهم ينطبق تماما على مفهوم الجهاد بمعنى القتال والمقاتلة والتي قد تنهي الحياة تماما وتقضي على النفس وتخلصك من مسؤولية المحافظة عليها بترك المنكرات وإتيان الأوامر، كما تنطبق تماما على مفهوم الجهاد بمعنى ترك المعاصي مع الإستمرار في الحياة والذي يلزمك أن تحافظ فيها على المأمورات وتجتنب المنهيات مع أن ملهيات الليالي والأيام تجرك إليها جرا.

ومثل هذا الفهم قد تبادر إلى بعض الصحابة عندما كان مفهوم الجهاد لم تكتمل عندهم، وكان في طور التطور والإكتمال، وكانت المهمة المحمدية أن يصحح هذا المفهوم ويعالجه ويقومه، وكانت احدى القضايا التي عالج بها النبي (صلى الله عليه وسلم) مفهوم الجهاد عند الصحابيات المتعطشات إلى الدور الرجالي في الصفوف الأمامية على ساحات القتال هو الحج المبرور، فاقرأ معي هذا الحديث الذي يرويه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ( أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور" فهنا نرى في الخطاب النبوي العقلاني المنطقي تصحيحا لمنطق الجهاد في العقلية النسوية الصحابية، فهو يوجههن أن أفضل الجهاد في حقهن هو الحج المبرور. وهناك ملحظ آخر أدق وأعمق، وهو أن الجواب النبوي للصحابيات تضمن أمرين:

 الإجابة على السؤال الأساسي المطروح منهن، وتصحيح المفهوم النسوي عن الجهاد نفسه. فلاحظ طرحن ( نرى الجهاد أفضل الأعمال) فيبدو أنهن قصدن أن الجهاد ينحصر في القتال فقط، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) أجاب بذكر الأفضل من القتال في حقهن وهو الحج المبرور، وصحح الخطأ المفاهيمي المتبادر من سؤالهن، فقال ( أفضل الجهاد الحج المبرور) فيوجه بشكل غير مباشر العقلية الإسلامية النسائية أن الحج المبرور من أنواع الجهاد وأنه أفضل من القتال في هذه الظروف الخاصة.

وأداء الحج المبرور يمثل الاحتفاظ على الزجاج حتى لا ينكسر، أما القتال فيمثل تكسير الزجاج، فالحج المبرور يتطلب متطلبات كثيرة، منها إخلاص النية، ونظافة النفقة، وأداء الحج على الوصف الهادوي النبوي، وعدم تدنيسه بالرفث والفسوق، أما القتال فيتطلب أمران فقط، النية الصالحة وممارسة العملية القتالية. وخذ مثالا آخر على التصحيح المفاهيمي الجهادي من النبي (صلى الله عليه وسلم) للصحابة وكيف استخدم سيناريو ( بطولية كسر الزجاج وبطولية الاحتفاظ على الزجاج لئلا ينكسر)

فالصحابي الذي جاء إليه يسامحه للمشاركة في الجهاد، فأرشده، وقال له (أحي والداك) فقال نعم. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) " ففيهما فجاهد" وهذا الصحابي رضي الله عنه كان يعتقد أن كسر الزجاج أكثر بطولية من الاحتفاظ عليها، فغير النبي (صلى الله عليه وسلم) مفهومه، وأرشده أن الاحتفاظ على الزجاج أو البيضة لئلا تنكسر أصعب وأكثر أهمية وأكبر أجرا.

إن كون النبي (صلى الله عليه وسلم)  يرتب أحيانا القتال في سبيل الله كأفضل الأعمال بعد الإيمان، كما في حديث أبي هريرة أن النبي (صلى عليه وسلم) سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: " جهاد في سبيل الله" قيل: " ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور" لا يبرر إطلاقا أن يكون الجهاد هو الأفضل بعد الإيمان في كل الظروف وفي حال كل شخص وفي كل الفترات التي تمر بها الأمة وبكل الأساليب التي تستخدمها بوكو حرام وداعش وغيرهم، إن أفضلية القتال تخضع للمصلحة الشرعية والأممية التي تقدرها العلماء الربانيون، وليس هناك شك أن من الصبيانية الفكرانية أن يكون هناك هوس قتالي عند مجموعات من شباب الأمة دون أن يتقيدوا بالضوابط المصلحية التي تحكم الزمن والأشخاص والآليات وغيرها، فياليت هؤلاء قاموا بالجهاد ضد أنفسهم بأن يلجموها عن أغوائها وضلالاتها ويتقيدوا بالإسلام وضوابطه، ولا يوجهوا سهامهم إلى نحور وصدور المسلمين، فعيشهم في سبيل الله هو الجهاد الأفضل، وليتهم فهموا أن الاحتفاظ بالزجاج أصعب من كسره.